لأنّ الشعر (ما أطرب وهزّ النفوس وحرّك المشاعر) كما يقول القيرواني (20)، فإنْ لم يكن صادق التعبير لم يفعلْ ذلك، لأنّ كذبَ المقال لا يسعدُ باكياً ولا يحرك ساكناً، وكلما كان الكلام صادق العبارة كانَ أشدّ وقعاً وأبلغُ تأثيراً في هزّ النفوس وتحريك المشاعر.
وبات التأكيد على الصدق ضرورة في تعريف الشعر، ذلك أنّهم فاضلوا الأبيات الشعرية في مقدار صدقها ومدى صحتها، واختاروا أصدقَ بيت قالته العرب، قال أبو عمرو بن العلاء: لم تقلْ العرب بيتاً قطُّ أصدق من بيت الحطيئة:
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يُعدمْ جوازِيَهُ ... لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناس ِ (21)
وروي عن النبي (علية الصلاة والسلام) أنه قال: أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيدٍ: ألا كلّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ، وقد روي بعدة صيغ ذكرها البغدادي في خزانته.
وللبيت قصة طريفة ذكرها صاحب الأغاني في الجزء الخامس عشر: وهي أنّ عثمان بن مظعون كان جالساً في مجلسٍ من قريشٍ وفيهم لبيد ينشدهم: ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله َ باطلُ، فقال له عثمان: صدقتَ، ولمّا قال لبيد: وكلّ نعيمٍ لا محالة َ زائلُ، فقال له عثمان: كذبتَ، نعيم الجنة لا يزول.
هذا وغيره حدا بطَرَفَةَ بن العبد أن يقول:
ولا أُغيرُ على الأشعارِ أسرقُها ... عنها غنيتُ وشرُّ الناسِ من سرقا
وإنَّ أحسَنَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ ... بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ صدقا
وفي نفس المعنى يقول حسَّان بن ثابت:
وإنَّما الشعرُ لبُّ المرءِ يعرضهُ ... على المجالسِ إنْ كيساً وإنْ حُمُقا
وإنَّ أشعرَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ ... بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ صدقا
وذهب الدكتور محمد النويهي بعيداً في مجال الصدق في الأدب، فقال: (إذا كان الفنّ هو المعبر الأكبر عن تجارب الحياة الانسانية والأداة العظمى لنقل هذه التجارب وتخليدها، فمن الواضح أنه لن تكون له هذه القيمة إلا إذا كان تعبيره هذا تعبيراً صادقاً)، وقال عن نشأة الأدب وسبب وجوده: (وجدَ لسبب واحد أصيل أن يصوّر التجارب الانسانية تصويراً صادقاً وأنْ يعبر عن العواطف البشرية تعبيراً أميناً) (22).
ولا بُدّ أن نشير هنا الى أنْ لا حقيقةَ لتوهم البعض من أنّ أعذب الشعر أكذبُهُ أو أحسن الشعر أكذبه، لأنه من مستحيل المحال أن يستعذبَ الذوقُ كذب المقال، وقصرُ الشعر على الكذب إزراءٌ بحقّه وقدره، كما يقول حافظ إبراهيم:
يا مَنْ توهَّمَ أنَّ الشعرَ أعذبُهُ ... في الذوقِ أكذبُهُ أزريتَ بالأدب ِ
وإنّ السبب وراء هذه المقولة هو تحوّل الشعر في وقتٍ من الأوقات الى وسيلة للإرتزاق يستغله الشعراء كلما ألجأتهم الفاقة وسولت لهم إبتزاز أموال الغير، فكانوا يتوسلون بشعرهم لنيل العطايا والهبات من عامة الناس وخصوصاً الحظوة عند الملوك والأمراء وبمرور الزمن نشأت طائفة من الشعراء تكيل الثناء جزافاً لمن يستحقه ومن لا يستحقه ومن نكدِ الأقدار أنّ أكثر الشعراء المدّاحين كانوا اذا لم يكافئوا على شعرهم انقلبوا الى الذمّ والهجاء، لأنّ الشعر عندهم كذبٌ وافتراء (22)
فبعض الأدباء والنقاد يرون أنّ الكذب لا يصلح مادةً للشعر، وبعضهم الآخر يرى أنّ المبالغة والغلوّ يُحسِّنان الشعر، ومنهم ابن سنان الخفاجي، فيقول: أما المبالغة والغلوّ فإنّ الناس مختلفون في حمد الغلو وذمه فمنهم من يختاره ويقول أحسن الشعر أكذبه، ومنهم من يكره الغلو والمبالغة ويعيب قول أبي نواس وأخفت أهل الشرك ... البيت، ثم يقول: والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد المبالغة والغلو (24).
ومنهم قدامة بن جعفر إذ يقول: إنّ الغلوّ عندي أجود المذهبين (أي الغلو والإقتصار) وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً.
والواقع أنّ علينا أنْ نفرق بين المبالغة والغلو المقبولين عقلاً ومنطقاً واللذين يضفيان على الكلام معنى لطيفاً لكي لا يكون دون المستوى المطلوب، وهما ما نسميه بالخيال الشعري لأنّ الخيال مطيّةُ الشعراء كما يقال وكثيراً ما يستظرف الناس بعض الأخيلة ويحبّون استماعها ويعجبون بمدلولها، وبين الغلو والمبالغة اللذين هما كذب محض ويجعلان الكلام قبيحاً.
فمن الثاني قول أبي نواس في مدح الأمين:
ألا يا خيرَ مَنْ رأتِ العيونُ ... نظيرُكَ لا يُحسُّ ولا يكونُ
¥