تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ وثانيهما: أن يكون المعرِّف أوضح من المعرَّف، أي أن نفسر الغامض بالواضح، والبعيد الدلالة بالقريب الدلالة، وغير الدقيق في التعبير عن الفكرة بتعبير يعبر عنها تعبيراً دقيقاً قال أبو البقاء: "لا يجوز تفسير الشيء بنفسه، كما لا يجوز بما يكون في معناه إلا إذا كان لفظاً مرادفاً أجلى" (34).

وسواء أكان إقرار الكفوي باستعمال المترادفات مقيداً أم مطلقاً، فإنه لم يستطع أن يقيد صياغة المصطلح أو تعريفه بعد صياغته بقيود الدلالات الحقيقية للألفاظ بل وجد أن استعمال المجاز إلى جانب الحقيقة أمر سائغ، سوّغته الضرورة، لأن العقل يجد نفسه مغلولاً إذا التزم التعامل مع جذور المعاني الحقيقية وحدها بعد أن اكتسبت الألفاظ دلالات مجازية، اقتضاها التقدم العلمي. قال أبو البقاء: "استعمال الحقيقة والمجاز معاً لضرورة التعريف جائز" (35).

وهذا الرأي يلتقي مع الدراسات اللغوية الحديثة في ملتقى واحد، فقد ثبت لأكثر الدارسين المحدثين أن المصطلح لا يلتزم الدلالة الحقيقية للفظ، ولكنه في الوقت نفسه لا ينقضها نقضاً، بل يظلّ على صلة قوية أو ضعيفة بها. "إن المصطلحات لا توضع ارتجالاً، إذْ لا بدّ في كل مصطلح من وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة، كبيرة كانت أو صغيرة، بين مدلولة اللغوي ومدلوله الاصطلاحي" (36). وهذه المشاركة أو المشابهة هي نقطة الاتصال بين معنيي اللفظ الاصطلاحي والحقيقي، وهي البرزخ الذي سماه أبو البقاء المجاز. وعلى هذا فإن المصطلح عند المحدثين، كما هو عند الكفوي: "لفظ اتفق العلماء على اتخاذه للتعبير عن معنى من المعاني العلمية. والاصطلاح يجعل إذن للألفاظ ومدلولات جديدة غير مدلولاتها اللغوية الأصلية" (37).

فلفظة (الإعراب) قبل أن صبح مصطلحات النحو، كان لها في لغة العرب خمسة معان، وهي: الإبانة، والتكلم باللغة العربية، وامتلاك الجياد العراب، وإصلاح المعدة بعد فسادها، وتحبب المرأة إلى زوجها بتحسنها. قال العكبرّي: "أعرب الرجل إذا أبان عما في نفسه ... وأعرب الرجل إذا تكلم بالعربية وأعرب الرجل إذا كان له خيل عراب ... وأعربت معدة الفصيل إذا عربت أي فسدت من شرب اللبن، فأصلحتها وأزلت فسادها ... وامرأة عروب أي: متحببة إلى زوجها بتحسنها" (38).

إن هذه المعاني كلها أو بعضها كانت تخامر ذهن الأعرابي في الجاهلية إذا سمع لفظة (الإعراب)، لكنها بعد أن غدت مصطلحاً نحوياً، وشاع استخدامها في نهاية القرن الأول الهجري اكتسبت دلالة أخرى مجازية طغت على معانيها الحقيقية السابقة. فمتى قرأت اليوم أو سمعت (إعراب المضارع) أو (الأسماء المعربة) انصرف ذهنك إلى المعنى الاصطلاحي المحض، أي انتقلت من الحقيقة إلى المجاز، ولم يتخلج في ذهنك من معاني (الإعراب) إلا معناه النحوي الخالص، وهو: "الإعراب اختلاف آخر الكلمة لاختلاف العامل فيها لفظاً أو تقديراً" (39). وأبو البقاء الكفوي لخّص ذلك كله بسطر وبعض سطر من كلياته حينما قال: "إذا ضمنت كلمة معنى كلمة أخرى، ووصلت بصلتها لم يبق معناها الأول مراداً، وإلاّ لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وهو غير جائز" (40).

والمقصود بالصلة المتصلة بالمصطلح القرينة التي تصحبه لتوضح استعماله الاصطلاحي، سواء أجاءت قبله كلفظتي البناء والحركات في قول النحاة: (البناء والإعراب) و (حركات الإعراب)، أم جاءت بعده كلفظتي الأفعال الخمسة ولفظتي المثنى والجمع في قولهم: (إعراب الأفعال الخمسة) و (إعراب المثنى والجمع). ومتى صاحب المصطلح القرينة انصرف الذهن إلى المعنى التخصصي للمصطلح عن معناه الحقيقي الذي وضع له. قال أبو البقاء: "كلّ لفظ متعين للدلالة بنفسه على معنى فهو عند القرينة المانعة عن إرادة ذلك المعنى متعين لما يتعلق بذلك المعنى تعلقاً مخصوصاً، ودال عليه، بمعنى أنه يفهم منه بواسطة القرينة لا بواسطة هذا التعيين حتى لو لم يسمع من الواضع جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي لكانت دلالته عليه وفهمه منه عند عدم قيام القرينة محالا" (41).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير