تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيستهل وصف الناقة كما ترى بالتشبيه المفرد، ثم يثني على ذلك بالاستطراد الوصفي المطول, ويثلث بالاستدارة التشبيهية القصصية.

يقول العرب: "إنّ البلاغة الإيجاز" فأي الإيجاز في أسلوب لبيد؟ هل هو في العبارة المفردة فقط؟ وكيف يخرج لبيد من الإيجاز إلى التكرار والاستطراد بما يشبه الإسهاب في الكلام على الموضوع الواحد والإسهاب كما نعلم من أساليب العباسيين لا الجاهليين.

هل يُتخذ ذلك حجة على الإضافات إلى شعر لبيد أم أن نزعة لبيد إلى التفخيم والمبالغة هي التي تقوده إلى هذا التكرار والاستطراد، فكأن الشكل الفني الواحد لا يشفي غله, فيلجأ إلى الأشكال المتعددة في الدائرة الواحدة. وهل يطعم لبيد الشعر بشيء من السرد الذي هو من صفات القص في البادية.

لكن ظاهرة التذييل التي تكثر وتبرز في معلقة لبيد هي التي تدفعنا إلى قراءتها قراءة جديدة.

يرد في معلقة لبيد أبيات مذيلة. تتعدد حتى لتكاد تشكل ظاهرة بارزة في المعلقة, تختلف عن بنية التعبير كما عرفناها في المعلقات الجاهلية. والتذييل كما عرفه التبريزي في كتابه "الوافي في العروض والقوافي" "هو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد بعينه، حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد لمن فهمه".

ويمثل لذلك بأمثلة منها قول ربيعة بن مقروم الضبي:

فدَعَوا نزالِ فكنتُ أوّلَ نازل

وعلامَ أركبُه إذا لم أنزل

إلا أن التذييل في أبيات لبيد يتخذ طابع الحكمة التي ترمي إلى العبرة، ويُخيل إلي: أن بينه وبين التذييل الذي يكثر في التنزيل الحكيم آصرة نسب إذ ينزع في مجمله نزعة الحكمة كما في قوله:

فاقطع لبانة من تعرض وصله

ولشر واصل خلّة صرّامها

...

رجعا بأمرهما إلى ذي مرة

حصِد، ونجح صريمة إبرامها

...

صادفن منها غرة فأصبنها

إن المنايا لا تطيش سهامها

...

لتذودهن وأيقنت إن لم تزد

أن قد أحم من الحتوف حمامها

...

أو لم تكن تدري نوار بأنني

وصّال عقد حبائل جذّامها

...

من معشر سنت لهم آباؤهم

ولكل قوم سنة وإمامها

...

فاقنع بما قسم المليك فإنما

قسم الخلائق بيننا علامها

والسؤال الذي يجب أن يطرح هنا، هل التذييل ظاهرة فنيّة جاهلية؟ ‍! أم أنه ظاهرة قرآنية؟!

قد يكون التذييل من ابتكارات لبيد التقنية ونحن لا نماري في إمكانية هذا الأمر.

لكن لماذا يذيل لبيد الكثير من أبياته ولا يفعل ذلك زهير أو طرفه اللذان اشتهرا بالحكمة أيضاً.

من يعتقد أن المعلقة جاهلية وأن لبيداً في زعم الرواة لم يقل غير بيتين مفردين في الإسلام هما:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

...

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى لبست من الإسلام سربالا

وكلاهما واضح النبرة الإسلامية في معناه ومبناه وصورته واستعارته. ونحن نميل إلى القول إنّ التذييل في معلقة لبيد ظاهرة فنية أصيلة, فإما أن تكون تقليداً للظاهرة القرآنية في الأسلوب وتمت في مرحلة الإسلام. أو أن تكون سابقة له كظاهرة فنية لكننا نستعبد أن تكون أبياته الإسلامية من صنع الشريحة التقية جرياً على قياس طه حسين في النحل هناك قصائد من العصر الإسلامي تحفل بالتذييل مثل قصيدة عمر بن أبي ربيعة:

ليت هنداً أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما نجد

واستبدت مرة واحدة

إنما العاجز من لا يستبد!!

...

ولقد قالت لجارات لها

وتعرت ذات يوم تبترد

أكما ينعتني تبصرنني

عمركن الله أم لا يقتصد

فتضاحكن وقد قلت لها

حسن في كل عين من تود

حسد حملنه من أجلها

وقديما كان في الناس الحسد

إلا أن التذييل عند عمر مقتبس من أسلوب التنزيل الحكيم فهل يكون لبيد المخضرم من الذين اقتبسوا هذه الظاهرة القرآنية أيضاً؟!

تقول لنا المرويات إنّ لبيداً أتى بصحف فيها سورة البقرة عندما سئل عن جديده في الشعر، وقال بما معناه إن ما في الصحف من الذكر الحكيم يكفيه الشعر، ولكن هذه المرويات تقول لنا أيضاً أنه لم يقل غير بيتين في الإسلام أسلفناهما فيما سبق.

هذا التناقض في المرويات. وهذا الأسلوب الإسلامي البارز في التصوير الفني للبيتين يلقي لنا ضوءاً على المقطع الأخيرة من المعلقة الذي يبدو لنا إسلامياً في محتواه وشكله صوراً ومصطلحاً ولغة:

يقول لبيد:

من معشر سنت لهم آباؤهم

ولكل قوم سنة وإمامها

لا يطبعون ولا يبور فعالهم

إذ لا يميل مع الهوى أحلامها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير