ولننظر لقول الرافعي رحمه الله تعالى: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ "
ومن أجل درء الذلة، ورفع قدر الأمة كانت العناية بهذه اللغة الشريفة، وبكل ما ينير الدرب لتبقى لغة شامخة تدور مع المسلمين حيث داروا، وترحل معهم حيث رحلوا، وتسكن شغاف القلب.
نعم،، ما كان العرب الأوائل يحتاجون لِما يقيمُهم على الجادَّة في لغتهم؛ لأنهم كانوا يتنفسون لغة، ويتقوَّتُونها، فلما بعُد العهد وطال الأمد واعوجَّت الألسنة، احتاج المسلمون إلى ما يقوّم ألسنتَهم، ويردُّ أفواههم الضالة إلى رُشدها، ويمنع اللحن في كتاب ربهم جلَّ وعلا،، فكانت علومُ العربية،، وكان منها قانُونها ودستورها،، ولحمتها وسداها،، نعم كان النحو،، ذلكم العلم الذي تنضبط به المُعْوَجَّات، وتستقيم به ما في اللسان من انحرافات، وتُستخرج به كنُوز الأحاديث والآيات.
جاء ذلك العلم لينظم الجميعَ في عقد حباتُه من كلم منضود، ثم جاءت على إثره علوم العربية تجميلا وتفصيلا وبيانًا،، فكان رأسَها وكانت تابعتَه.
ومن أهمية النحو: أنّ جميع العلوم لا تَستغني عنه، وحَرِيٌّ بطالب العِلم أن يَتعلم قواعد الكلام العربية ويتحرز من أن يَلْحَن في كلامه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الصفحة الثانية والخمسين بعد المئتين من المجلد الثاني والثلاثين من مجموع فَتاوِيه:
ومعلومٌ أنَّ تَعَلُّم العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يُؤدِبِّون أولادَهم على اللَّحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ، أو أمرَ استحبابٍ أن نَحفظ القانون العربي، ونُصلحَ الألسنة المائلة عنه.
وقال أبو بكر الشَّنْتَرِيني في مقدمة كتابه: تَنْبِيه الألباب: " إنَّ الواجبَ على كل مَن عَرَف أنه مخاطَبٌ بالتَّنزيل، ومأمورٌ بفَهم كلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم، غير معذور بالجهل بمعناهما، ولا مُسَامَحٍ في تَرْك العمل بمقتضاهما، أن يَتقدَّمَ فيَتعلَّم اللسان الذي أَنزل اللهُ به القرآنَ؛ حتى يَفهم كلامَ الله، وحديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ لا سبيل لفَهمِهما دون معرفة الإعراب، وتمييزِ الخطأ من الصواب ".
ومن الأمثلة على قدر هذا العلم وحامليه ما يُروى من الطرائف التي تحدث في مجلس الخليفة هارون الرشيد بين جليسيه العالمين الجليلين أبي يوسف الفقيه - صاحب أبي حنيفة- والكسائي النحوي القارئ إمام الكوفة في النحو، فقد كان أبو يوسف يداعب الكسائي ويحاول إغاظته بالتقليل من شأن علمه الذي نبغ فيه وهو علم النحو والعربية، فأراد الكسائي أن يثبت له أهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه وبخاصة الفقهاء، فقال له: يا أبا يوسف، ما رأيك في رجلين رُفِع إليك أمرُهما، رجل يقول عن أحدهما: هذا قاتلُ أخي (بالإضافة)، وقوله عن الآخر: هذا قاتلٌ أخي (بالتنوين)، أيهما تقتصّ منه؟ فقال أبو يوسف: منهما معًا. فقال الكسائي: أخطأت. القِصاص إنما يكون من الأول؛ لأنه هو الذي قتَل وانتهى، أما الثاني فإنه يتوعّد ولمّا يقتل بعدُ.
ولقد حظي هذا العلم الفريد بالتصنيف والتأليف والتحقيق؛ لدرء التحريف، ثم لفهم الكتاب والسنة وإنزال الكلام منازله وإيقاف المعنى عند حده وتحقيق مغزى الشارع، وفهم أغراض العلماء والبلغاء والأدباء والشعراء بل كان لدوره في إبقاء العربية ثرة متطورة متجددة متواكبة مع متطلبات الحياة أثرًا محوريًّا، تأثيرًا جوهريًّا.
ولمّا رأى علماؤنا السابقون أن النّاس تتفاوت درجاتهم في الطلب، وتتباين منازلهم بحسب كل واحد وما يرغب، وضعوا لكل واحد ما ينفعه، فوضعوا للمبتدئ بغيته، وللمتوسط غايته، وللمنتهي ما تصل إليه همته. بحيث لا يقصر عن الطلب أحد كبيرًا أو صغيرًا،، فلكل درجة، وما الأعلى بأرفع عند الله والناس إلا بتقواه وبمقصد ما يطلب، فقد يسبقُ المبتدئُ بحسن نيته ووضوح غايته المنتهيَ على تقصيره في النية وسوء الطويَّة!!
وقد وجدنا فيما وضع من متون النحو متنًا ييسر للطالب قصدَه، ويدني منه وِرده، ويحقق للطالب غالب ما يصبو إليه مع تحقيق دقيق المسائل، وإسعاف الطالب والسائل، في لغة جزلة قوية، وعبارة رصينة محكمة،، فأحببنا – على قلة بضاعتنا وغور مائنا - أن نبتدئ بعرضه،، وتيسير ما منه خَفِيَ،، وتوضيح غامضه. وبيان ما أشكل والوقوف عند مرام العلماء، غير مدعين ابتداعًا بل كل ما نقوله من كلام غيرنا ممن سبقونا علمًا وفضلا وقدرًا، ننقل كلامهم ولا نزيد إلا ما زادوا ونقف حيث وقف القوم فليس لأمثالنا من بنت فكره من مزيد.
فكان أن شرعنا في شرح قطر الندى وبل الصدى للعلامة ابن هشام رحمه الله، لما تحويه من قوة الأسلوب، وجدة المعنى، ودقة البنيان، وحسن الترتيب، وجودة السبك.
والله أسأل أن يجبر الكسر ويسد الخلل، وييسر لما يحب ويرضى، فالتوفيق منه والخطأ والزلل والنقصان مني والله ورسوله منه براء.
وقبل البدء نعرض مقدمتين، الأولى: في ذكر المبادئ العشرة التي يتعين على طالب النحو أن يلم بها قبل بدئه، والثانية: التعريف بصاحب المتن رحمه الله تعالى.
¥