لنأخذ على سبيل المثال، اللغة الإنجليزية التي حلّت محل الفرنسية كلغة للحضارة السائدة. هل هناك الآن في العالم الثالث كله شخص يحلم بمستقبل مرموق دون أن تكون اللغة الإنجليزية مطيَّته في الوصول إلى هذا المستقبل؟ وهل يستطيع رجل الأعمال في الدول العربية أن يحقق أدنى قدر من النجاح دون أن اتصالات مكثفة بمختلف أنواع " الخواجات "؟
ونتيجة لذلك نجد المدارس الخاصة تسابق المدارس الحكومية في صبِّ اللغة الإنجليزية صبَّا في عقول الطلاب عبر العالم الثالث كله، ونجد الإبتعاث لعاصمة غربية للدراسة حلم كل طوح في آسيا و إفريقيا، ونجد " أوكي " " وباي باي " و " هاي " تنافس – وتغلب – " حسنا " و " إلى اللقاء " و " مرحبًا " حتى في ثقور الضاد وعواصمها.
لنتصور معًا، طفلا في الثامنة في مكان مآ من العالم الثالث، ولنتصور برنامجه اليومي .. يصحو طفلنا صباحا على دقات منبِّه مصنوع في سويسرا - أو هونج كونج إن كان طفلنا ينتمي للطبقة المسحوقة – يقوم فيلبس ثيابا من صنع تايوان منقولة عن رسوم ونماذج غربية. يذهب إلى المدرسة في حافلة يابانية – أو ألمانية إن كان من الطبقة المخملية - يدرس في مدرسته علومًا منسوخة، وبما كانت كلمة ممسوخة أدق، من الكتب الغربية. ولا يكاد يلمُّ بشيء يذكر عن دينه وحضارته وتاريخه. يعود في المساء فيرى في التلفزيون برامج أمريكية تمجِّد مباشرة أو غير مباشرة الحياة في أمريكا. حتى أبطال الرسوم المتحركة من جرذان وقطط وثعالب وأسماك يحملون الجنسية الأمريكية. فإذا ما نام طفلنا، رأى فيما يرى النائم أنه يطير " كالسوبرمان " الأمريكي، أو يتسلق الجدران كالرجل العنكبوت (الأمريكي أيضًا).
مثل هذا الطفل، هل نتوقع منه فجأة بعد أن يكبر أن يكتشف في أعماقه انتماءه الحقيقي، وأن يحس بشوق عارم إلى الجذور والبذور؟!
ألسنا جميعًا كبارا وصغارا مثل هذا الطفل؟! نلبس ملابس من صنع الغرب – بما في ذلك الرموز العربية الشهيرة: " العباءة " و" الثوب " و " العقال "، وننتقل من مكان لآخر في سيارات من صنع الغرب. ونلوي ألسنتنا باللهجات الغربية، ونستقي علومنا ومداركنا ونظرياتنا من جامعات الغرب ومكتباته، ونحلم باليوم الذي نرى فيه الغرب، أو نعود إليه. وعبر هذا كله ندمدم ونتمتم ونهمهم بمخاطر الغزو الثقافي وروعة الأصالة وعظمة الانتماء. وقد نلفظ هذه الكلمات بالإنجليزية أو الفرنسية إن لم تسعف الذاكرة بالألفاظ العربية " وهي مترجمة في معظمها ".
لعلنا هنا ندرك الخطر الكبير الذي وقع فيه أكثر من تصدى لظاهرة الغزو الثقافي، لقد تصور هؤلاء أن مصدر الخطر " مستشرقون " هناك، و " مستغربون " هنا: أي استعماريون هناك يُصدِّرون الفكر الغربي ومستعمرون – بفتح الميم – فِكريًا هنا يتلقون هذا الفكر ويبثونه ويرجعون له. ويمضي هؤلاء الباحثون يحضون على مقاومة " المستشرقين " ومحاصرتهم متصوِّرين أن منع الكتب القادمة أو حرق الكتب المحلية هو الحل الناجع لمشكلة الغزو الثقافي.
وحقيقة الأمر أن بوسعنا أن نمزِّق كل كتب المستشرقين، ونفرض الإقامة الجبرية والصمت على كل " المستغربين " وبعد هذا كله، يبقى الغزو الثقافي يبتسم من سذاجتنا وهو يطلُّ علينا من الأقمار الصناعية (بما فيها القمر الصناعي العربي الذي سمي بهذا الاسم العربي القحّ " أربسات ".
وحتى أولئك الذين ذهبوا أبعد من ذلك فدعوا إلى تعريب دراسة الطب وإلى منع الإبتعاث إلى الغرب وإلى حشو أدمغة الطلاب حشوًا بتراثهم، حتى أولئك، وعلى سلامة نواياهم وطهر مقاصدهم، لم يضعوا أصابعهم على مكمن الداء. بإمكاننا أن ندرس الطب باللغة العربية وبعض الدول العربية تفعل هذا – ولكن ما جدوى ذلك إذا كان كلّ تقدّم في الطب، بحثًا واكتشافًا واختراعًا وممارسة يتم بلغات غربية ولا يترجم إلى اللغة العربية .. ولا نستطيع أن نمنع الإنبعاث إلى الغرب، وفي هذه الحالة يكون كل ما حققناه هو أننا حرمنا أنفسنا من المصادر الأصلية للمعرفة وتلقيناها من مصادر ثانوية على يد أساتذة درسوا هم أو درس أساتذتهم في الغرب.
ونستطيع أن نجعل طلبتنا يرددون كالببغاوات كل ما نصبَّه في أذهانهم من منتوجات تراثهم – ولكن هل نستطيع أن نجعل ما نصبه في أذهانهم ينافس " ميكي ماوس " و " الخنافس " .... وغيرها؟!
ولا يتصور أحد بعد هذا كله، وبعد أن أشرت إلى خطورة العدو وعجز الاستراتيجيات المقترحة من مقاومته، أنني سأقترح " الحل البسيط الملائم " إن معضلة كهذه تستعصي على " حلٍّ بسيط ملائم " بل قد تستعصي على الحلول جميعًا. إلا أنه مع ذلك لا ينبغي أن يتصوّر أحد أننا مسلوبوا الإرادة، عديموا الحيلة، لا نملك أمام الخطر المحدّق سوى الخنوع والاستسلام. إن السبيل الأسهل هنا هو السبيل " الأقتل " – لأنه يعني تدريجيًا ذواب خصائصنا ومميزاتنا كأمة. وهذا خيار لا يستحق مجرّد التفكير.
ما العمل إذن؟ ّ!
للمقال بقية ..