ومن الجدير بالملاحظة أن حديث ابن طباطبا عن النظم والنسج، يعد بحق إرهاصا قويا لنظرية النظم الجرجانية، يقول عبد القاهر الجرجاني:"وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني، وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف حال واتفق.
وكذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير ... ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل ... وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق" ().
واللافت للنظر اتفاق الرجلين في تشبيه النظم بالنسج والصياغة والبناء والوشي،وأن النظم لا يتعلق بالألفاظ دون المعاني، وإنما يشملهما جميعا، وفي كل ذلك تتبين أصالة ابن طباطبا النقدية. وهذا ينفي عن ابن طباطبا أن يكون قد نظر إلى الألفاظ على أنها قالب جامدة، بل هو أقرب إلى نظرة (كروتشه) إذ يقول:"فسيان إذا أن نعد الفن مضمونا أو صورة، شريطة أن يكون من المفهوم دائما أن المضمون قد برز في صورة، وأن الصورة ممتلئة بالمضمون، أي أن الشعور هو الشعور المصور، وأن الصورة هي الصورة المشعور بها" ().
النقش، الصياغة، الصباغة:
ومن الأسماء المرادفة للنسج التي استعملها ابن طباطبا النقش، فقد شبه الشاعر بالنقاش، فقال:"وكالنقاش الرقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان" (العيارص8).والنقش فن و مهارة ورؤية.
وشبه الشاعر بالصائغ في معرض حديثه عن إعادة صوغ المعاني " وإن وجد المعنى في المنثور من الكلام، وفي الخطب والرسائل والأمثال،فتناوله وجعله شعراَ كان أخفى و أحسن، ويكون ذلك كالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد صياغتهما بأحسن مما كانا عليه " (العيار ص126).
وشبه الشاعر بالصباغ فقال:" وكالصباغ الذي يصبغ الثوب على ما رأى من الأصباغ الحسنة، فإذا أبرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة التي عهد عليها، وأظهر الصباغ ما صبغه على غير اللون الذي عهد قبل، التبس الأمر في المصوغ وفي المصبوغ على رائيهما، فكذلك المعاني وأخذها واستعمالها في الأشعار على اختلاف فنون القول فيها " (العيار ص126 - 127).
يندرج حديث ابن طباطبا عن عمل الصائغ والصباغ ضمن الحديث عن الأسلوب والصياغة، صياغة المعنى بأسلوب جديد إن كان مثلاَ أو حكمةَ أو خطبة يصاغ بأسلوب الشعر، وليس المقصود هنا نظمه عروضياَ، بل المسألة أبعد من ذلك فهي تتعلق بإعادة الهيئة وسبكه سبكا جديداَ فهو يقول:" يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد صياغتهما "، أي تشكيل المعنى تشكيلا جديدا بتراكيب جديدة.
ونلحظ أن ابن طباطبا يولي الصياغة والنسج والصباغة عناية فائقة لدرجة أنه يجعل مجال الشاعر المحدث في هذا المجال، إذا تعسر عليه أن يأتي بالمعنى الجديد، أي الفكرة الجديدة.
وشبه ما يجيش به فكر الشاعر من شعر بعد أن يديم النظر في الأشعار محكمة النسج بالسبيكة "المفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن " (العيار ص14).وأشار إلى السبك فطالب الشاعر أن يكون خروجه "من كل معنى يصيغه إلى غيره من المعاني خروجاَ لطيفاَ، ........ ، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاَ ....... لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها،ويكون ما بعدها متعلقا بها مفتقرا إليها" (العيارص213). وقد أشار الجاحظ إلى السبك فقال: "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء،سهل المخرج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" ().ويكاد أن يكون كلام ابن طباطبا شرحا وتوضيحا لعبارات الجاحظ النقدية.
وشبه تأثر الشاعر بالشعر المحكم وما ينتجه بمن " قد اغترف من واد قد مدته سيول جارية من شعاب مختلفة.
¥