وأشار إلى متعلقات الكسوة فقال: " فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراَ، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه والوزن الذي سلس له القول عليه " (العيار ص7 - 8).واستخدامه للباس لا يعني التقليل من أهمية الأسلوب، فنص ابن طباطبا يعني أن القصيدة تمر في مرحلتين الأولى مرحلة النثرية وتكون المعاني في الفكر، المرحلة الثانية الشعرية وذلك عندما تصاغ المعاني النثرية في الفكر بأسلوب الشعر المتعارف عليه والمألوف الذي يؤكده ابن طباطبا ويجعله علة قبول الشعر أو رفضه. فالمعنى النثري ينقل إلى الشعرية بالأسلوب الذي يقدم به أو باللباس حسب تعبير ابن طباطبا هنا.
ويقول ابن طباطبا:" وإذا تناول الشاعر المعاني التي سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه " (العيار ص123).يستخدم ابن طباطبا مصطلحي المعاني والكسوة، فالكسوة تعني الألفاظ والتراكيب والصور التي ترد فيها المعاني، أي الأسلوب.
ويحل ابن طباطبا قضية السرقات عندما فتح المجال أمام الشاعر أن يتصرف بالمعاني من خلال الأسلوب، وجعل الفضيلة للأسلوب كما هي للمعنى. والمقصود بالمعنى هنا حسب سياق ابن طباطبا الفكرة سواء كانت خاصة أو عامة. فإن مجال الصياغة والنسج يبقى مفتوحاَ ولا يغلق أمام الشعراء حتى لو تواردوا معنى واحداَ.
ويمثل على ذلك بقول أبي نواس:
وإن جرت الألفاظ منا بمدحة لغيرك إنساناَ فأنت الذي نعني
أخذه من الأحوص حيث يقول:
متى ما أقل في آخر الدهر مدحة فما هي إلا لابن ليلى المكرّم
فالفكرة واحدة، إلا أن كل شاعر صاغها ونسجها وكساها بألفاظ وتراكيب مختلفة، ولا يعني ذلك على أية حال تطابق المعنيين، إذ إن اختلاف المبني يؤدي إلى اختلاف المعنى من حيث التفاصيل الدقيقة، فالكسوة عند ابن طباطبا ليست مجرد "قشرة" تستر في داخلها المعنى، وإنما هي المبنى الجمالي الذي يشكل المعنى ويصوغه ويعطيه وجهه الجمالي الذي يتحقق به.
ويستخدم ابن طباطبا تعبير "رثة الكسوة" للدلالة على الأبيات الرديئة النسج، يقول: " ومن الحكم العجيبة، والمعاني الصحيحة، الرثة الكسوة، التي لم يتنوّق في معرضها الذي أبرزت فيه ...... " (العيار ص144).
ويمثل على ذلك بقول القائل:
نراع إذا الجنائز قابلتنا ونسكن حين تمضي ذاهبات
كروعة ثلة لمغار ذئب فلما غاب عادت راتعات
نلحظ أن ابن طباطبا قصد بالكسوة أو المعرض المبني الذي صاغ الشاعر به فكرته، وقام البناء عند الشاعر على التصوير والتشبيه، ومن ثم فابن طباطبا يرى أن التشبيه لا يفي بالمعنى الذي أراده الشاعر. فالفكرة التي يعبر عنها الشاعر حكمة عجيبة غير أن العبارة أو المبنى الذي قام به غير واف، مما يترك أثرا سالبا في نفس المتلقي.وهو لا يستسيغ التشبيه أو الكسوة أو المبنى في قول الشاعر (العيار ص145):
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداَ بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماَ أن ترد الودائع
فالمعنى عجيب غير أن المشبه به لا يحقق شروط الصدق التي يطلبها ابن طباطبا منه.
ومن الأبيات الرثة الكسوة، قول الآخر:
قدرت على نفسي فأزمعت قتلها فأنت رخي البال والنفس تذهب
كعصفورة في كف طفل يسومها ورود حياض الموت والطفل يلعب
فالمعنى أو الفكرة جيدة غير أن التعبير عنها بالبنية التشبيهية التي نسجها الشاعر أو كسا بها المعنى غير مناسب، فثمة فجوة ومفارقة بين المعنى في البيت الأول والصورة التشبيهية في البيت الثاني، فلم يكن الشاعر موفقاَ في اختيار المشبه به ووجه الشبه، فابن طباطبا يحرص على الصدق في التشبيه والحكاية، والتشبيه هنا أبعد ما يكون عن الصدق، لأن المشبه به يفرّغ المعنى من دلالته التي تضفي جوّ الرهبة والخوف في نفس المتلقي. فثمة فجوة كبيرة بين المشبه والمشبه به،مما أخلّ بالنسج، ومنها قول الآخر (العيار ص147):
من يلم الدهر ألا فالدهر غير معتبه
أو يتعجب لصرو ف الدهر أو تقلبه
ومن يصاحب صاحباَ ينسب إلى مستصحبه
بزائنات رشده أو شائنات ريبه
وربما عرّ صحيـ حاَ جرب بجربه
تعرف ما حال الفتى في لبسه ومركبه
وفي شمأزيزته عنك وفي توتبه
عليك أو إصغائه إليك، أو تحببه
والمرء قد يدركه يوماَ خمول منصبه
¥