ويتصل اللطف بالمعاني أيضاَ يقول: " وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام .... فتناوله وجعله شعراَ كان أخفى وأحسن " (العيار ص126). ووقف عند أبيات قال عنها: " ومن الأبيات التي تخلب معانيها للطافة الكلام فيها .... " (العيار ص139). فهو يجعل المزية في الشعر للطافة الكلام،و يستخدم مصطلح اللطافة مقابل المعاني، وكأنه يقصد حسن الأسلوب الذي تقدم به المعاني. ومن الأشعار التي تخلب معانيها للطافة الكلام فيها قول زهير (العيارص139):
تراه إذا ما جئته متهللاَ كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخي ثقة ما تهلك الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
غدوت عليه غدوة فرأيته قعوداَ لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراَ وطوراَ يلمنه وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فأعرضن منه عن كريم مرزأ فعول، إذا ما جدّ بالأمر فاعله
وهذا يعني أن اللطافة تتحقق في القصيدة التي تتوافر فيها مطالب ابن طباطبا النقدية، فإذا نظرنا في قوافي هذه الأبيات: سائله، نائله، عوازله، فاعله، نجد أنها كما أراد ابن طباطبا لها أن تكون، فهي كالقوالب للمعاني، وقواعد للبناء، يتركب عليها ويعلو. والكلام الذي قبلها مسبوق إليها، وليست مسبوقة إليه. فابن طباطبا يحلل الشعر أو ينقده من وجهة نظر بناء الشعر وخلقه من الداخل. فهو يستبطن النص من الداخل، وهو ناقد نصوصي، يلتصق بالنص.
فالبيت الأول يتأسس على فكرة " تعطيه الذي أنت سائله " فالعبارة التي فيها القافية ليست مقحمة على البيت، وإنما تأسس البيت عليها. وبالتالي فإن نسج الشعر محكم ورصفه متقن ويستدعي بعضه بعضاَ وكل ذلك يولد اللطافة. وكذلك عبارة " ولكنه قد يهلك المال نائله " عبارة تأسيسية وتوليدية في البيت الشعري، يتولد عنها الشطر الأول. وكذلك الحال في البيتين التاليين، "عوازله، فما يدرين أين مخاتله "، كل منها عبارات توليدية وقواعد للبناء، يتركب عليها ويعلو. وتعبيره عن القافية بالقاعدة، يعني أنها تأتي أولا َويتأسس عليها البناء الشعري ولا يأتي الشاعر بالبيت ثم يطلب له قافية فتغدو مقحمة قلقة مرذولة، وإنما صنعة الشعر أن يؤسس الشاعر قاعدة / قافية ثم يطلب لها ما يتركب عليها ويعلو من الكلام. يقول: " وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله " (العيار ص8).فإذا تحقق كل ذلك أدى إلى أن تكون الأبيات لطيفة وتتحقق بها اللطافة.
ومن الأمور التي لا تحقق اللطافة التشبيهات البعيدة " التي لم يلطف أصحابها فيها، ولم يخرج كلامهم في العبارة عنها سهلاَ " (العيار ص 147). إن السهولة تحقق اللطافة والتشبيهات البعيدة هي التشبيهات البعيدة عن الصدق ومطابقة الواقع، والتقارب بين المشبه والمشبه به، مما يشير إلى أن فيها غلواَ. من ذلك قول النابغة الذبياني (العيارص148):
تخدي بهم أدم كأن رحالها علق أريق على متون صوار
فالمشابهة بين الرحل والعلق بعيدة. وقول خفاف بن ندبة:
أبقى لها التعداء من عتداتها ومتونها كخيوطة الكتان
ويعقب بقوله: " والعتدات: القوائم، أراد أن قوائمها دقّت حتى عادت كأنها الخيوط، وأراد: ضلوعها، أي متونها " (العيارص148). فثمة غلو ومبالغة في رأي ابن طباطبا في هذا التشبيه. وقول ساعدة بن جؤيّة (العيارص150ـ151):
كساها رطيب الريش فاعتدلت لها قداح كأعناق الظباء زفازف
ومع تفهمنا لموقف ابن طباطبا، إلا أن المسألة تكمن في أننا لا يجوز أن ننزع بيتاَ من سياقه ثم نحكم على التشبيه الوارد فيه، لأن السياق قد يستدعي أموراَ لا تتضح دون مراجعة سياقها الذي قد يعلل التشبيه.
وتتصل اللطافة بنسج الشعر فقد عقب على قول أبي عيينة المهلبي:
دنيا دعوتك مسمعاَ فأجيبي وبما اصطفيتك للهوى فأثيبي
دومي أدم لك بالوفاء على الصفا إني بعهدك واثق فثقي بي
بقوله: فقوله: "فثقي بي" لطيفة جداَ، فيستدل بها على حذق قائلها بنسج الشعر " (العيار ص183). ويبدو أن الحذق بنسج الشعر تمثل في البيت برؤية ابن طباطبا أن القافية " فثقي بي " تنسجم مع صدر البيت: دومي أدم لك / إني .... واثق فثقي بي.
¥