واستخدامه كلمة "النقض"، أي الهدم، متعلق بالبناء والتأليف والألفاظ والمعاني، وليس بالوزن فقط. ويوضح مقتضيات عملية البناء بقوله: " وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في شعر دبره تدبيراَ يسلس له معه القول ويطّرد فيه المعنى، فيبني شعره على وزن يحتمل أن يحشى بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به أو نقص يحذف منه، وتكون الزيادة والنقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه بل تكون مؤدية له وزائدة في رونقه وحسنه " (العيار ص 72 - 73). ويمثل بقصيدة الأعشى التي اقتص فيها خبر السموأل، وقد عقب عليها بقوله: " فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتمام معانيه وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له، من غير حشو مجتلب، ولا خلل شائن ...... " (العيار ص75).
وأشار إلى البناء واستواء النظم والنسج فقال: " ويكون خروج الشاعر من كل معنى يضيفه إلى غيره من المعاني خروجاَ لطيفاَ ..... حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاَ كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقص في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقاَ مفتقراَ إليها " (العيار ص213). فالبناء والنظم والنسج كلها مصطلحات أسلوبية تتعلق بالشكل والتأليف، الذي به يتشكل المعنى.
ويتصل بالبناء عند ابن طباطبا الفعل "أسس" ومشتقاته، مما يدل على مدى حضور عملية البناء في ذهنه.يقول: " فإن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء، وفي صدر الإسلام من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحاَ وهجاَ ..... " (العيار ص13).ويقول: " فإن الكلام إذا كان مؤسساَ على هذا المثال تطير في سامعه، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح " (العيار ص204).ويشير إلى تأسيس الشعر فيقول: " فإذا كان الشعر على هذا التمثيل سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها راويه، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه اضطراراَ يوجبه تأسيس الشعر كقول البحتري (العيار ص 213ـ214):
سلبوا البيض بزهّا فأقاموا بظباها التأويل والتنزيلا
فإذا حاربوا أذلوا عزيزاَ .............................
يقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه:
............................. وإذا سالموا أعزوا ذليلا
فالتأسيس هو النظم والتأليف وهو متعلق بالمعاني والألفاظ وليس بالألفاظ فقط.ويضرب مثالاَ آخر من شعر البحتري (العيار ص 214):
أحلت دمي من غير جرم وحرّمت بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فداؤك ما أبقيت مني فإنه حشاشة حب في نحول عظام
صلي مغرماَ قد واتر الشوق دمعه سجاماَ على الخدين بعد سجام
فليس الذي حللته بمحلل
يقتضي أن يكون تمامه:
........................... ........... وليس الذي حرمته بحرام
الصنعة:
نظر ابن طباطبا إلى الشعر على أنه صناعة، فقد شبه الشاعر بالنساج والنقاش والصائغ وناظم الجوهر، بالإضافة إلى السبك والبناء والكسوة وهي كلها دوال تتعلق بحقل الصناعة اليدوية. وقد أشار إلى الصناعة للدلالة على الصياغة والنسج والنظم فقال: " فالمستحسن من هذه الأبيات حقائق معانيها الواقعة لأصحابها الواصفين لها دون صنعة الشعر وإحكامه " (العيار ص137). و يفسر لنا في السياق نفسه صنعة الشعر" بنسج الشعر وجودته وإحكام رصفه وإتقان معناه " (العيار ص136).
أما حقائق المعاني فهي تختلف عن المعاني، وقصد بها " اتفاق الحالات التي وضعت فيها [الأشعار]، وتذكر اللذات بمعانيها، والعبارة عمّا كان في الضمير منها، وحكايات ما جرى من حقائقها " (العيار ص136). فحقائق المعاني تتعلق بالموضوع الذي يعالجه الشاعر بوجه عام، وليست المعاني التفصيلية الدقيقة.
ويتسع مفهوم صنعة الشعر ليستوعب العملية الشعرية كاملة بكل جوانبها، يقول: " وإذا قد قالت الحكماء أن للكلام جسداَ وروحاَ، فجسده النطق وروحه معناه، فواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعةَ متقنةَ لطيفة مقبولة مستحسنة مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه والمتفرس في بدائعه، فيحسنه جسماَ ويحققه روحاَ، أي: يتقنه لفظا ويبدعه معنى، ويجتنب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسوها قبحاَ ويبرزه مسخاَ، بل يسوي أعضاءه وزناَ، ويعدل أجزاءه تأليفاَ، ويحسن صورته إصابةَ، ويكثر رونقه اختصاراَ، ويكرّم عنصره صدقاَ، ويفيده القبول رقة، ويحصنه جزالة، ويدنيه سلاسة، وينأى به إعجازاَ، ويعلم أنه نتيجة عقله، وثمرة لبّه، وصورة علمه، والحاكم عليه أو له. وينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما يتطيرّ به أو يستجفى من الكلام والمخاطبات كذكر البكاء ووصف إقفار الديار وتشتت الألاّف ...... " (العيار ص203 - 204).
الديباجة:
ومن المصطلحات الدالة في هذا المجال (الديباجة)، يقول: " والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر " (العيار ص24).ونلحظ أن ابن طباطبا يستعمل الديباجة مقابل المعنى؛ أي أن الديباجة تتعلق بالشكل والصياغة، وكأنه يقول إن الشعر معنى وديباجة أو أحدهما وإلا فليس ثمة شعر. وهذا يعني أن ابن طباطبا يولي مسألة الشكل والصياغة اهتماماَ كبيراَ، ويجعلها عاملاَ أساسياَ وحاسما في تحقيق شعرية الشعر.
ويشير إلى الديباجة في موضع آخر فيقول: " ونذكر الآن أمثلة للأشعار المحكمة الوصف، المستوفاة المعاني، السلسة الألفاظ، الحسنة الديباجة " (العيار ص5).فهو يستخدم ثلاثة عناصر تشكل الأسلوب: المعاني والألفاظ والديباجة مما يعني أنها النظم والتأليف والنسج أي نسج الألفاظ والمعاني.
ومن المصطلحات التي ذكرها ابن طباطبا الحيلة (العيارص13)، والرصف (العيار ص136).
وللموضوع بقية ...
مجهود تستحق عليه الشكر
أتمنى أن يكون للموضوع بقية
تقديري