تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد سعد]ــــــــ[09 - 12 - 2008, 02:00 م]ـ

خالد الكركي يقرأ المتنبي من جديد في الرونق العجيب

لم تستطع مئات السنين أن تمحو مكان المتنبي ومكانته بوصفه 'مالئ الدنيا وشاغل الناس'، فشعره عابر للزمن والتاريخ والجغرافيا، فقد تجاوز هذه الحدود ووصل أرجاء العالم صوتا إنسانيا قويا يصارع الموت بين أصوات وقامات شعرية عالية، إذ ما زالت الدراسات لم تستنفد مكنونات هذه التجربة الواسعة والعميقة. وآخر هذه الدراسات التي وصلتنا كتاب 'الرونق العجيب: قراءة في شعر المتنبي' للناقد والأكاديمي الدكتور خالد الكركي.

ويعتبر الكركي، رئيس الجامعة حاليا، ورئيس رابطة الكتاب الأردنيين سابقا، من بين أبرز المهتمين بحياة المتنبي وشعره، اهتمام يمكن تلمس بعض جوانبه في الدراسة التي نعرض لها، والتي يقدمها ناقد وأكاديمي آخر هو الدكتور عبد القادر الرباعي، الذي يعتبر أن 'المتنبي له من الكركي قلبه وعقله، وحلمه وواقعه، ورضاه وغضبه'، ويتساءل الرباعي عن 'سر هذا الحب الجارف، لكأن المتنبي والكركي مقرونان في قرن واحد، فإذا ذكر الكركي قفز إلى الذهن المتنبي. ويحاول الرباعي أن يجيب على سؤاله بسؤال ربما يحمل جانبا من الإجابة 'هل قلعة حلب الشهباء وقلعة الكرك الشماء أوقعتا في القلب هذا الحب الملتهب؟ '.

الكركي يبدأ كتابه بإعادة عنوان الكتاب إلى مصطلح للجاحظ في حديثه الذي ينتصر به للعرب من حيث إجادة القصيد والأرجاز والمنثور والأسجاع وسواها.

ومنذ المقدمة يعلن المؤلف أن شعر المتنبي هو المتنبي 'قلقه وروحه وكبرياؤه وحدسه وثقافته وفلسفته في الحياة وتجربته مع السلطة والثورة ومع الكبار والصغار، في زمن لم يكن يتراءى منه له سوى أن أهله صغار 'وإن كانت لهم جثث ضخام'.

وبعد أن يستعرض الكركي نظرات في الشعر لبعض النقاد العرب القدماء، الجاحظ وابن طباطبا وقدامة بن جعفر والقاضي الجرجاني، يقرر أن القراءة النقدية الجادة منحازة إلى سلطة النص وقريبة من التصور الذي يتحدث عن موت المؤلف، ويركز قراءته على جوانب معينة من شعر المتنبي، أبرزها 'الخروج عن المألوف' أو ما يسميه 'محاولة تفسير الدهشة' و'الفتنة التي تغري بالتأويل'.

ومع تركيزه على الجانب الفني، فقراءته لا تخلو من التوقف عند مواقف معينة للمتنبي يدينها البعض خصوصا ما يتعلق بمدائحه، وهنا يبدو موقف الكركي تبريريا إلى حد ما، حيث يقول 'لسنا قضاة في محكمة تاريخية أو أخلاقية، أو وعاظا في دائرة تعنى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ما يتعلق بالشعر والأخلاق'، ويعيد الكركي هذا الموقف إلى أن المتنبي تغلغل في الحياة 'قلقا وأسئلة وفكرا وثقافة، ووقف في المنطقة الرمادية الفاصلة بين عالم خيالي يتراءى له وعالم محسوس اضطر للتعايش معه'.

وإجابة على سؤال السر في كون شعر المتنبي قد استحق حبا من البعض وكراهية من آخرين، يرى الكركي أن الأمر يتعلق بما يسميه 'عبقرية التشكيل وإشعاع فني يبعث نشوة ذاتية في روح المتلقي ويوقد السؤال في عقله حتى يعيد تمثل التجربة كما صاغها المتنبي للمرة الأولى.

كما أنه يشير إلى جوانب في شعر المتنبي تتعلق بالإيقاع والموسيقى والرموز والأساطير والصور والمجاز والعلامات والدلالة والرؤية. ويعتبر أن لحظة اتحاد الرؤية باللغة لحظة خالدة، ففيها 'صارت اللغة عباءة الرؤية، وألقت القصيدة أسرارها وحجبها'.

وإذ يتناول الكركي حياة المتنبي وشخصيته ومواقفه من خلال شعره، فإن ثمة محورا أساسيا في الدراسة مخصص للشعر الذي يبرز ملامح شخصية المتنبي ومواقفه، خصوصا ما يتعلق برؤية المتنبي إلى نفسه، الرؤية المتمثلة في تضخيم الذات وتعظيم 'الأنا' على نحو يكاد يكون غير مسبوق في الشعر العربي، وذلك على مستويين من مستويات الأنا: المستوى الشخصي الإنساني والآخر الشعري.

على مستوى الأنا الأولى تبرز ملامح علاقته بالوجود وبالناس والحكام، علاقة بالحياة والموت يبدو فيها متحديا بصوت هادر مفاجئ:

يحاذرني حتفي كأني حتفه

وتنكزني الأفعى فيقتلها سمي

وفي تحديه العالم والحكام الذين اتصل بهم نقرأ:

لتعلم مصر ومن بالعراق

ومن بالعواصم أني الفتى

وأني وفيت وأني أبيت

وأني عتوت على من عتا

وعن علاقته مع نفسه ومع العالم من حوله هناك نوع مما يمكن أن يدعى الغرور في رسم هذه العلاقة، فهو لا يرى الخلق من حوله، بل يراهم تحت قدميه:

واقف تحت أخمصي قدر نفسي

واقف تحت أخمصيّ الأنام

أما في وصف شعره وارتفاع مكانته، فثمة الكثير من القصائد التي تبرز مدى اعتزازه بشعره، ومدى عجز الأيام عن أن تكتب ما يريد:

وما تَسع الأزمان علمي بأمرها

ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي

وعلى هذا النحو يمضي المؤلف مستعرضا جوانب كثيرة من حياة المتنبي وشعره ومقتله، ويختم معتبرا كتابي أدونيس 'الكتاب' وكمال أبو ديب 'عذابات المتنبي' يشكلان 'انزياحا نقديا نحو فهم مغاير للمتنبي واستعادته رؤية وأسطورة وأنموذجا عاليا للفن الإنساني الرفيع الذي انبثق من علاقة جدلية بين الشاعر والعالم وبينه وبين حركة الحياة والمكان والزمان، وما في أعماقه من قلق ونوازع ورغبات وكوامن غائرة قد تكشف القراءة عنها في أي زمان محتمل جديد'.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير