تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتعليقا على ما تقدم ذكره، وإثراء له، أورد فيما يأتي تعقيبات وفوائد متفرقة؛ منها أن الباحث محمد بهجت الأثري يرى أن انتقادات ابن الخشاب لمقامات الحريري كانت ((غاية في القوة و الأصالة، و إن ناقشه ابن بري بما ناقشه بها)) [60].

في حين ذهب الأديب عبد المالك مرتاض إلى القول بأن ابن الخشاب انتقد الحريري انتقادا مرا، لم يخل من بعض الهوى؛ فجاء ابن بري ورد عليه ردا عنيفا انتصارا للحريري [61].

لكن حقيقة الأمر أن كل منهما بالغ في نقده، فابن الخشاب كان مدفوعا بدافع انتقاد مقامات الحريري، حريصا على الرد عليه، لذا نجده في بعض المآخذ يشتد في انتقاده وتضخيم أخطائه. وابن بري هو الآخر كان شديد الحرص على الانتصار للحريري من ابن الخشاب، وكثير التبرير لمواقفه، يبحث له عن المخارج وإن كانت ضيقة مرجوحة، حتى أنه سكت عن مواضع خطأه فيها واضح. مما يثبت أن ابن الخشاب كان أكثر منه موضوعية، فهو وإن اشتد في انتقاده للحريري، وجانب الصواب في بعض مآخذه عليه، فإنه قد اعترف له بالفضل، وعذره في بعض أخطائه [62].

ومنها - على ما يبدو - أن الغالبية العظمى من أدباء القرنين السادس والسابع الهجريين/12 - 13م، وما بعدهما، كانت مواقفهم سلبية تجاه نقد المقامات الحريرية، فإني لم أعثر لهم على أي عمل علمي لنقدها شكلا وموضوعا [63]، واكتفوا بشرحها والمبالغة في مدحها وتقريظها. وقد أشار ابن الخشاب إلى سلبية أدباء بغداد تجاه مقامات الحريري، وتعجب منهم كيف أنهم عندما سمعوا منه مقاماته في سنة 504ه/1110م، لم ينتقدوه إلا في مسألة واحدة فيها خلاف [64]؟!؛ وهو بمفرده قد انتقده في مواضع كثيرة، أثبت فيها خطأه وتقصيره. لكن عمله النقدي الذي بدأه لم يجد - على ما يظهر - من يواصله، في عصر خيم عليه التقليد المذهبي والجمود الفكري، واهتم فيه الأدباء بظاهر اللغة دون باطنها [65]؛ حتى أن بعض علمائه صدرت عنهم أقوال - في مدح مقامات الحريري - لا تليق بأهل العلم أبدا. فادعى الجغرافي ياقوت الحموي (626 ه/1228م)، أن الحريري بمقاماته قد تفوق على الأوائل، وأعجز الأواخر ولو ((ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره، ولا يرد قوله، ولا يأتي بما يقاربها، فضلا أن يأتي بمثلها)) [66]. وقال عنه الحافظ ابن كثير ((لم يسبق إلى مثلها ولا يلحق)) [67]. وردد المحدث جلال الدين السيوطي (ت911 ه/1505م) ما قاله ياقوت الحموي [68].

وأقول - ردا عليهم [69]-:

أولا: إن كلام هؤلاء غير علمي، فيه جهل ومبالغة، ودعوى عريضة، لأنه من الخطأ الفاحش أن يصدروا حكما بأن الحريري أعجز الأواخر، ولا يلحق في مقاماته؛ فمن أين لهم ذلك؟ فهل اطلعوا على الغيب؟ إني أعتقد جازما أن أي عمل بشري - مهما بلغ من الإتقان والبراعة والعبقرية - فإنه لا يصح عقلا، يدّعى فيه الإعجاز حاضرا ومستقبلا.

وثانيا: أنه سبق و أن أوردت انتقادات ابن الخشاب لمقامات الحريري، كان الكثير منها في الصميم، أظهر بها جانبا مخفيا من عيوبها، لم يتفطن له معظم أدباء عصره. وقد تنبه لذلك الأديب العماد الكاتب الأصفهاني (ت597ه/1200م) عندما أشار إلى نقائص أدب الحريري، في صدد ترجمته للأديب أبي الفضل الحصكفي الشافعي (ت553 ه/1158م) ومقارنته بالمعري و الحريري، فقال عنه: كان علامة الزمان في ((علمه، معري العصر في نثره و نظمه، بل فضل المعري بفضله وفهمه، وبذّ - فاق، وغلب -الحريري برقة طبعه، وقوة سجعه،وجودة شعره، غزارة أدبه، وانفراده بأسلوبه في الشعر ومذاهبه)) [70]. فهذه شهادة من أديب متضلع في اللغة والأدب، تعني أن أدب الحريري - و منه مقاماته - كانت فيه نقائص كثيرة، جعلت الحصكفي يتفوق عليه برقة الطبع، وقوة السجع، وغزارة الأدب، وجودة الشعر.

و ثالثا: أن المقامات الجزرية [71] قد حازت خصائص المقامات الحريرية، وفضلت عليها، وعقدت لها عشرة مجالس لقراءتها برواق المدرسة المستنصرية ببغداد، في سنة (676ه/1277م)، وقد سمعها مائة وستون عالما، من كبار علماء العراق والشام، وفارس وخراسان، وبلاد المغرب، وشهدوا لها بالفضل والتفوق على مقامات الحريري [72].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير