تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأكثر ما تجلت الأصالة الجامعة بين السند التراثي والابتكار الذاتي في كتابات شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي، فقد اتخذ من التراث الصوفي أساسا بنى عليه رؤاه الجديدة ولغته الجديدة، بتوسيع أفق الرؤى واللغة القديمة لا محوها. وكذا طاهر رياض لم يعتزم محو التراث، أو تجاوزه في حضرة ابتكاريته، إنما تجاوزه على الطريقة الأكبرية التي تتخذ فيها المرتبة الأعلى مكانها في سلم الترقي دون إلغاء المرتبة/ المراتب الأدنى، بل على العكس، فهي تتأسس على هذه المرتبة الأدنى.

موسيقى الشعر وقصيدة النثر:

لعل أوضح أشكال القطيعة مع التراث تتجلى في قصيدة النثر، ففي الخمسينيات انبرت أقلام الدعاة والمبشرين (وعلى رأسهم أدونيس ويوسف الخال) بإعلان ولادة هذا الشكل الشعري الجديد، بل المستقبلي، إنها الولادة التي يستعذبونها، تلك التي «لا تكون إلا من لا شيء» (1). فالعروض العربي تقليدي، ينتمي إلى التراث المتحجر، وما شعر التفعيلة إلا كسر لهذا التحجر وخلخلة له، إنه محض تجريب في التجاوز. أما قصيدة النثر فهي الخروج التام من عباءة التراث، النبذ التام لهذا التحجر بالاستعلاء عليه وتحطيمه تماما، إنها تجاوز التجاوز. العروض العربي قيد ثبات إيديولوجيا، فيتنافى بذلك مع الحرية- الإبداع. بالمقابل، تؤسس قصيدة النثر شعر المستقبل، قرآنه الذي تتهجد به أرواحنا، إذ ان شعر المستقبل هذا ميتافيزياء الكون، على حد تعبير أدونيس.

ويدافع دعاتها عن الفوضى الناجمة عن الانفلات من الوزن بأنها موقعة، لكن إيقاعها حر، فهو «إيقاع شخصي لا قواعد له ينتج من تزاوج الكلمات وتركيب العبارات» (2). وبايقاعها الحر والشخصي تحررت من «الوزن والقافية والقواعد العروضية السلفية» (3)، ولم تتحرر من الإيقاع، إنما من الإيقاع السلفي، إذ الموسيقى فيها داخلية نفسية. وأي موسيقى بلا إيقاع مضبوط (4)؟! يقول إليوت: «ما من شعر يمكن أن يكون حرا لمن يريد أن ينجز عملا شعريا جيدا، وإن الحرية لن تكون أبدا هروبا من الوزن، في الشعر، وإنما هي في السيطرة عليه وإتقانه» (5 (

وقد انبثق ابتداع قصيدة النثر من التوق إلى هذه الحرية الحداثوية، وليست إلا بقطع الأواصر مع التراث، أو بتره باعتباره جزءا زائدا ومريضا في جسد الحداثة الصحيح. لكن العروض العربي يتيح حرية غشى هؤلاء الحداثيون أبصارهم عنها، فقد أحصى الشاعر السوري حامد حسن «التنويعات على البحور الستة عشر فوجدها (4096) ضربا أو إيقاعا، وفي الإمكان اكتشاف غيرها بالحس العميق والذوق السليم، ولا سيما أن البحور الفنية استخرجت من القصائد القديمة ولم تبنَ هذه على تلك» (6)، ناهيك عن الإمكانات غير المحدودة التي تتيحها قصيدة التفعيلة.

ويعترف أحد أساطين الحداثة، يوسف الخال، أن الهجوم على قصيدة النثر «له ما يبرره في كثرة الكتابة بها وسخف معظمها ... فكل كاتب يقدر أن يدعي أنه يكتب الشعر بمجرد توزيع الأسطر جغرافيا على الورق» (7). وبعد ما يزيد على خمسين عاما اتسمت بغزارة الشعر والتنظير له لم يدخل مستقبل الشعر العربي المتمثل في قصيدة النثر مستقبله بعد، إذ لم يكوّن شكلا فنيا خاصا، ناهيك عنه شعريا، وما آل إلا إلى مزيد من الفوضى والخواء.

إن الوزن بنية تجريدية ذهنية تنتظم إيقاع القصيدة وتولده. فالإيقاع من جهة البنية الذهنية المتولد عنها ينتمي إلى المجال النفسي مشكلا «الطريقة الوحيدة لضبط الطاقات النفسية المتنوعة جدا ولحفظها، فهو أساس الدينامية الحية والدينامية النفسية» (8). وبتوليده من هذه البنية الذهنية ينتمي إلى مجال موسيقى اللغة، وذلك بتمظهره بصورة صوتية-سمعية قوامها الحروف والكلمات.

والوزن لا يضبط الطاقات النفسية وينظم تنوعها وحسب، وإنما له قيمة تعبيرية عن الحالة النفسية، وقيمة تأثيرية منبثقة عنها. فقد بينت تجربة عمد بها أحد علماء النفس إلى قياس مدى تأثير الوزن والنسيج الصوتي أن الوزن أكثر العناصر تعبيرا عن الحالة المزاجية يليه النسيج الصوتي بقيمه التعبيرية المتعددة والمختلفة (9).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير