تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فموسقة اللغة هي بالأساس توقيع للطاقات النفسية وفق نظام محدد؛ وزن يحكم توالي المقاطع الطويلة والقصيرة مشكلا عامل تجانس للقصيدة على المستويين النفسي واللغوي. إنه منبثق تواصل الشعر (10)، منبثق وحدة النص من حيث يحصنه من التفكك والانحلال والفوضى. وبانفلاتها من الوزن تفقد قصيدة النثر أهم عامل من عوامل التجانس بافتقارها لأساس التواصل في الشعر، فلا تعكس ثم إلا فوضى المشاعر واضطراب الحالة المزاجية للقصيدة لاضطراب حركية الزمن فيها، خلافا للقصيدة الموزونة التي تنظم فيها حركية الزمن (توالي المقاطع).

إن الإيقاع برأي المنظرين لتنثير الشعر مفهوم أوسع بكثير من أن يحد ويحصر بالوزن، وهذا توجه سليم لولا أنهم يتخذون منه مسوغا لنبذ الوزن باعتباره إسارا يقيد الدفقة الشعورية والشعرية، ويشوه إيقاعات الروح بتقييدها بقالب شكلي مسبق، بما يخالف، برأيهم، المسألة الأساسية في الشعر، والإبداع عموما، وهي الحرية. ولذلك فإن تحطيم العروض الخليلي في قصيدة التفعيلة ليس إلا حرية نسبية حرية ناقصة، إذ تزاوج بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي. أما قصيدة النثر فهي الحرية الخالصة لتخليصها من أي ضابط خارجي، إنها الشعر الخالص الموقع بإيقاع النفس من حيث انتقل «إيقاعها نقلة حاسمة ونهائية من مستوى البنية الإيقاعية الصوتية إلى التكوين الإيقاعي الداخلي الخاص» (11). وبهذا انقلب مجال الشعر «من إطار الموسيقى إلى الإطار الشكلي أو التصويري ... ويترتب على ذلك إلغاء اللوازم الموسيقية المتعلقة بالسمع أو الأذن العربية، واعتماد القصيدة على الوسائل البصرية وهي الأقرب إلى التشكيل وليس الموسيقى» (12).

ويقف الشاعر طاهر رياض موقفا مناهضا لهذا الاتجاه، لا من حيث إصراره على اتصال الشعر بالموسيقى، وإنما بقلبه لمجال الشعر من فن قولي إلى فن موسيقي، فالقصيدة، برأيه، «ابنة للموسيقى قبل أي شيء» (13). وتتحقق لها هذه البنوة في البناء الصوتي المرتكز على الوزن والقافية، والتشكيلات الصوتية للكلمات، وفي البناء الدلالي المعتمد الإيحاء والإيماء، إذ «الأدب توليفة دلالات، الشعر تشابق إشارات» (14).

وينفتح هذا التصور على جوهر الشعر الذي يكون فيه الوزن والقافية من أخص خصائصه، وذلك فيما يمكن أن يدعى القصيدة الأوركسترالية، باعتبارها ابنة للموسيقى، إذ تؤدى الأوركسترا بعدد من الآلات المختلفة الأصوات والنغمات، ويقاس نجاحها بقدرة اللحن والتوزيع على خلق تآلفات وتماسك لهذه التعددية الصوتية، ويعتمد ذلك على غير عامل، أولها حسن التوزيع لتكوين الانسجام والتآلف بين أصوات الآلات، وأهمها فاعلية القائد، من حيث إنه يضبط الإيقاع و» يجعل دور ترابط العازفين أكثر وعيا» (15). ويشكل هذا الترابط مصدرا هاما لتواصل المقطوعة الموسيقية وامتلائها، وما يؤدي إليه من الشعور بالتواصل والامتلاء الذي تتركه في السامع.

والشاعر منه بالإزاء، يرتكز نجاح قصيدته على ما يحدثه، بوعي أو لاوعي، من الترابط والتآلف بين الأنساق البنيوية للنص؛ أنساق البنيتين الصوتية والدلالية: الوزن والقافية والنسيج الصوتي والعبارات والتراكيب والبناء التصويري. وبقدر ما تترابط هذه الأنساق بقدر ما تلغى الفاصلة بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي، الإيقاع السمعي والإيقاع غير السمعي، الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، بحيث يتشابك الإيقاعان، فلا يعود الإيقاع الصوتي ظاهر النص باعتباره محسوسا وحسب، وإنما داخله ووراءه أيضا. وتمتلئ القصيدة بقدر ارتباط وجوهها، فيكون الإيقاع الوجه الآخر للصورة، والصوت الوجه الآخر للمعنى, بما يستلزم كشف العلاقات الدلالية بين الوجه ووجهه، وذلك في سياق المعنى الذي تنميه القصيدة.

فتواصل القصيدة، ومن ثم امتلاؤها، لا يقع إلا في الموزون من الشعر، ذلك أنه يكمن في التداخل بين الإيقاعين الخارجي والداخلي، إيقاع الأصوات وإيقاع المعاني. ولا يكون هذا التداخل إلا بالعلاقة الجدلية بين البنيتين الصوتية والدلالية، جدل التشابه والاختلاف بين العناصر المكونة للنسق، وبينها وبين النسق الآخر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير