تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولعل اختلال العلاقة بين هاتين البنيتين مؤشر قوي على الخلخلة البنائية للقصيدة، وذلك باختلاف إيحاءات البنيتين، أو تضادهما، إذ إن وحدة الإيقاع النفساني تقتضي ضرورة وحدة إيقاع البنيتين بانسجام إيقاع الأصوات وإيقاع المعاني وتماسكهما، والمجاوبة بين إيحاء الموسيقى المتولدة عن الوزن والقافية وإيحاء النص. أما عدم انسجام الإيقاعين، أو تنافرهما، فلا يخل ببناء القصيدة وحسب، وإنما يعكس تشتت الإيقاع النفساني أيضا.

ويصدق على القصيدة المختلة المتخلخلة ما ينعاه أدعياء تنثير الشعر على الشعر الموزون من أنه قعقعة إيقاعية صاخبة وجعجعة لغوية فارغة (16). وهذا حكم لا يختص بالشعر الموزون، بل بالشعر الرديء عموما قديمه وحديثه، ذلك أن القعقعة والجعجعة ليس منشؤهما الوزن، إنما مردهما التوتر الحاد بين الصوت والمعنى، والتنافر الصارخ بين البنى الإيقاعية للنص (صوتية ودلالية).

بل ويرتد هذا الحكم ليصدق على كثير من نماذج الشعر الحداثوي موزونا وغير موزون. فالسقوط في الصخب والمجانية من أشد مميزات الشعر الحديث فالشاعر العربي المعاصر كما يقول المنصف المزغني «لا يبني قصيدته، فأنت لا تعرف متى ستنتهي هذه القصيدة، لأن الشاعر يظل منسابا مع ذاكرته لا يتفطن لما يكتبه والذي يتحول إلى ركام ... فالقصيدة العربية سائبة» (17) يتبدد نسق اللغة فيها وتتشتت الدلالة، بما يحول دون التأثير الجمالي للإيقاع، بل يخلق توترا حادا بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، «وهذا يدفع الشعراء الحداثيين بالضرورة إلى تنثير الشعر» (18).

فالدعوة الحداثوية للتحرر من الوزن والقافية حققت هدفين، الأول معلن ومقدس: وهو تحطيم التراث المتحجر، والثاني مستتر ومخبوء: وهو تغطية الفوضى الإبداعية التي يرتع بها الشعر الحداثوي. فهذا الشعر مما لا يلائمه الوزن ولا القافية، إذ بتنظيمه للطاقة النفسية وضبطه للوارد الشعري وتوقيعه لحركة الروح يفضح الوزن اندياح القصيدة الحديثة وانطفاء روحها، وباعتبارها ركيزة نغمية تقوم بتنسيق الموسيقى وضبط توازنها واستقطاب أكبر قدر من التركيز الدلالي وتركيز الشحنة العاطفية تعري القافية اندفاعات قصيدة الحداثة التائهة وغيبوبة دلالتها وبرود قلبها.

لكن التوجه نحو تحطيم وزن الشعر له ما يبرره ويدعم صحته، فهو محاولة لتخليص الشعر مما هو خارج عنه، مما هو بنية منفصلة عن بنية اللغة الشعرية، مما هو مقياس مفروض عليه ومكبل للقرائح الشعرية، ومن حيث هو كذلك، فإن في التمسك به تشويها للشعر وانتقاصا للحرية الشاعرة. وهذا التصور للوزن ليس مبتدعا، إنما يرتكز على تراث نقدي وشعري بدا فيه الوزن وكأنه معطى خارجي مفروض على الشعر والشاعر، من حيث بالغ العروضيون بقيمة الوزن والقافية على حساب قيمة الشعر نفسه، في كثير من الأحيان.

وبذلك يكون الوزن قد «ظلم قديما وحديثا مرتين: الأولى: عندما نظر إليه كمعطى خارجي لا علاقة له ببنية الشعر. والثانية: حين عاملوه كمقياس للشاعرية» (19). والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي خروج الشعر من الشعر، فتقديس القدماء للوزن آل إلى انحدار الشعر إلى النظم، وعداء الحداثيين له آل إلى انحدار الشعر إلى النثر.

وتتميز البنية الإيقاعية للشعر بالازدواجية، فلها مستويان: خارجي وداخلي، صوتي ودلالي، موسيقي ولاموسيقي. وتتعدد العناصر الإيقاعية في كل مستوى منهما، غير أن الموسيقى لا تتولد إلا عن المستوى الخارجي؛ الوزن والقافية والنسيج الصوتي، أما العناصر الإيقاعية على المستوى الداخلي؛ حركة المعنى والتصوير، فهي إيقاعات غير محسوسة، ومما لا يتولد عنها موسيقى، إلا إذا اعتد بالموسيقى الصامتة أو البصرية.

وهكذا، فإن التمسك بالوزن والقافية مميزين للشعر، ضمن غيرهما من العوامل، ليس نزوعا تقليديا للحفاظ على أهم بنود عمود الشعر العربي، وإن كان لدى البعض كذلك، إنه حفاظ على إغراء الشعر وغموضه، على تنوع انتماءاته الجمالية بحسبانه فنا قوليا وفنا موسيقيا وفنا تصويريا في آن معا، على جدلية أنساقه الجمالية قولا وموسيقى وتصويرا. فالشعر هو الفن الأعظم لأنه فن جدلي بامتياز. وهو كذلك لتعدد الاستقطابات الجدلية فيه وتنوعها بين الكلام والموسيقى والتصوير. وجدل الشعر، أو جدلياته، يحيل المعنى إلى صيرورة لانهائية: إذ يستحيل المعنى إلى صورة، والصورة إلى قول،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير