تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وثمة مكونات إيقاعية دلالية أخرى تحدث توازنا داخليا لإيقاع المعنى الثنائي، وتنبع من لغة السرد الثنائية، زمن السرد وضمائر السرد. فزمن السرد يتحرك باتجاه متقدم بحيث يبدو وكأنه متوافق مع التعاقب الكرونولوجي (ماض، حاضر مستقبل/ زادنا، نفتتح، نختمها، يرفعون، يلقون). لكن هذا التسلسل الزمني يعاكس تسلسل زمن المعنى ويقلبه، فالماضي ليس ماضيا، إنما هو مستقبل هذا الحاضر السردي ونتيجته، والحاضر ليس حاضرا، إنما هو ماضي هذا الماضي السردي وسببه. فالسكر حالة تتموضع في ذروة السهرة قبيل (نختمها، يلقون)، غير أن انكشاف أثره أو فعله في زيادة السواد سوادا يتزامن ولحظة تفرق الندامى (فرادى). فهذا التسلسل لزمن السرد يقلب تعاقب الزمن من حيث يتوافق معه، يقلب نسق الذاكرة، ويقلب رباط السبب النتيجة، فالنتيجة باعتبار ازدياد السواد تسبق الفعل الذي ينتجها، والنتيجة باعتبار التفرق فرادى تعقب الفعل الذي ينتجها.

فتنعطف النتيجة على النتيجة لتسير حركة الزمن في مجرى دائري (لاحظ حركة المعنى الدائرية) يبدأ إلى حيث ينتهي، وينتهي من حيث بدأ. و (الآن) بين حدي البداية والنهاية، بين حدي السواد الذي يغمر كل شيء، فالليل زمن السهرة، والليل يوازي الليل الداخلي، والليل أداة لإزالة الليل الداخلي، والصبح امتداد لهذا الليل لا ولادة نهار جديد، إنما ولادة ليل جديد (فرادى) لينعطف على وجهه الآخر (سوادا). ومن خلل هذا السواد الكثيف ثمة مغامرة خمرية تهز الليل، وإن أخفقت في تبديده إشراقا، ثمة الفعل الذي يحرك السكون، وإن أخفق في نفي الانفصال.

لكن الانفصال ليس عاريا تماما هنا، إذ يأتي في غمرة الاتصال بما يخفف من ثقل وطأته من وجه، ويعمق بعده المأساوي من وجه آخر. فلا تجري القصيدة بلسان الشاعر (الأنا)، ولا تنطلق من الذات المفردة لتعاين علائقها مع الآخرين ارتباطا أو انفصالا، بل تمتد على مساحة هذا السواد لتندمج بامتداداتها مع الآخرين وامتداداتهم، تنصهر الأنا في أنوات نحن. وينعطف الضمير من التكلم إلى الغيبة، مع الحفاظ على صيغة الاندماج التعالقي؛ صيغة الجمع. وبهذا تكون حركة إيقاع الضمائر ثنائية تسير باتجاهين متضادين، من الحضور (نحن) إلى الغياب (هم).

غير أن حركة الضمائر ليست منفصلة متقطعة متخلخلة، بل متصلة. فالمراوحة بين الحضور والغياب (نحن، هم) لا تؤدي إلى الالتباس أو الضبابية، إذ إنها تتوحد في الإحالة المرجعية- النصية: الندامى الذين يوحدهم زمن واحد (الليل، السهرة) ومصير واحد (السواد، الخيبة).

ويتعزز التشابك الدلالي وثنائية الإيقاع والمدى الطويل للحركة بتكثيف اللغة الثنائية الضدية (نفتتح/ نختمها، يرفعون/ يلقون، الليل/ الصبح، جميعا/ فرادى). فتنبجس الحركة قوية سريعة بالانتقال من الضد إلى ضده، باجتياز الهوة بينهما. أما المدى الطويل للحركة ببطئه وتراخيه فيتموضع في نهاية الحركة الانتقالية في الضد الثاني. فاللغة تنظم وتنسق حول قطبي الاتصال والانفصال. أما الاتصال فيتحقق بقطبها الأول (نفتتح السهرة: تجمع الندامى، يرفعون الليل: مشاركة الندامى بالفعل، واتصالهم بالمرفوع الليل، وبأداة الرفع الليل، واتصالهم معا جميعا). وينظم الانفصال في القطب الثاني (نختمها: إرهاص بالانفصال، يلقون به: انفصال الندامى عن الليل، وانفصالهم أنفسهم فرادى، والصبح: زمن الانفصال). ويتولد قطب الانفصال من العبارة الوحيدة في القصيدة التي لا تبنى بلغة الثنائية الضدية (زادنا السكر سوادا)، لتتمدد حركة الانفصال بتمدد هذا السواد وثقله.

وهكذا، يتشابك إيقاع الدلالة في القصيدة وتتعدد مولداته وتتنوع، وتنظم جميعها في نسقية ثنائية مركبة تجمع بين نسق المشابهة ونسق المقابلة. أما نسق المشابهة فتتولد عنه حركة متراخية بطيئة تتطور باتجاه واحد، اتجاه الانفصال، على حين يولد نسق المقابلة حركة حيوية تنبثق عن المراوحة بين الاتصال الذي هو محركها والانفصال الذي هو مآلها.

فهل يتوافق هذا الإيقاع الدلالي مع الإيقاع الصوتي (الوزن والقافية)؟ هل ينتظم الوزن في نسقية ثنائية مركبة؟ هل تحدث القافية إيقاعا ورويا نسقا مع الدلالة؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير