ويبدو أن ابن فارس نظر إلى أصل هاتين الأداتين، فرأى أنهما بمعنى (هل)، لأن (ألا) يحتمل أن يكون أصلها (هلا) فأبدلت الهاء همزة، وبهذا التركيب امتد نظر العلماء فتبينوا "تعين معنى التمني، وزوال احتمال الاستفهام في هل، فتولد من التمني التنديم في الماضي، نحو: هلا أكرمت زيداً، فكأن المعنى ليتك أكرمت زيداً، والتحضيض في المضارع نحو: هلا تكرم زيداً، فكأن المعنى: ليتك تكرمه متولداً منه معنى السؤال" ([66]).
11 ـ الإفهام:
ويشير إلى معنى الإفهام بقوله: "ويكون استخباراً والمراد به الإفهام نحو قوله جل ثناؤه:) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ([طه: 20/ 17]، ثم لا يلبث أن يشرح المقصود من الإفهام بقوله: "قد علم أن لها أمراً قد خفي على موسى ـ عليه السلام ـ فأعلمه من حالها ما لم يعلمه" ([67]).
ولعل ابن فارس يقصد أن ظاهر الاستفهام يدل على أنه سؤال عن شيء أشير إليه، وهو أمر معلوم عند سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ فهو عالم أن الذي في يده عصا، فما وجه استخبار الله سيدنا موسى عليه السلام عما في يده؟ أليس ثمة إيماء إلى أن السؤال سيتضمن أمراً غريباً في شأنها؟ فمن رأي ابن فارس أنه أراد من الاستفهام إفهامه أن ما بيده عصا، وأن ثمة أمراً خَفِيَ على سيدنا موسى سيحدث، وهو انقلاب العصاب حية؛ فلذلك ابتدئ بسؤال عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه، حتى إذا انقلبت حية لم يشك في أن تلك الحية هي التي كانت عصاه، وبذلك يكون غرض الإفهام دقيقاً من وجهة نظر ابن فارس.
لكن كثيراً من العلماء ذهبوا وجهة أخرى، فرأى بعضهم أن الغرض هو التنبيه ([68])، وجمع أبو السعود بين الإيقاظ والتنبيه ([69])، وذكر ابن قتيبة أنه للتقرير ([70])، وشرح القرطبي معنى التقرير بقوله: "إنه لتقرير الأمر، حتى يقول موسى: هي عصاي، يثبت الحجة عليه بعدما اعترف" ([71]) وجمع أبو حيان ([72]) بين التقرير والتنبيه، فقال: هو تقرير مضمونه التنبيه، وذهب الزركشي والسيوطي ([73]): إلى أنه للإيناس، ثم نقل الزركشي رأي ابن فارس في أنه للإفهام، لكنه لم يلبث أن استطرد بأنها "للتقرير؛ فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية" ([74]).
12 ـ التكثير:
ومما ذكره ابن فارس من المعاني المجازية للاستفهام معنى "التكثير"، يقول: "ويكون استخباراً، والمعنى تكثير، نحو قوله ـ جل ثناؤه ـ) وَكَمْ مِّن قَرْيَةِ أَهْلَكْنَاهَا ([الأعراف 7/ 4] " ([75]) ثم يسرد أمثلة أخرى شواهد على هذا المعنى دون بذل محاولة لتفسيرها، وكأن همه كلّه منصب على توجيه الاستفهام توجيهاً مجازياً يكشف عما وراءه من معان وأسرار والأمثلة التي ذكرها، هي قوله تعالى: ") وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ([الحج: 22/ 48] ([76]) ومثله:
كَمْ من دَنيّ لها قَدْ صِرْتُ أتْبَعُهُ
ولو صَحا القلبُ عنها كانَ لي تَبَعا
وقال آخر:
وكَمْ مِن غَائِطٍ مِنْ دون سَلْمَى
قليلِ الأُنْسِ ليس به كَتِيعُ ([77]) "
فكل ما ساقه ابن فارس من هذه الشواهد يشير إلى إدراكه خروج الاستفهام عن أصل وضعه إلى غرض التكثير، وهذا ما ذكره العلماء فيما بعد وتناولوه في كتبهم ([78])، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أن عالمين بلاغيين مثل السكاكي والخطيب القزويني لم يعرضا لهذا الغرض، ولم يتناولاه ضمن دراساتهما لأسلوب الاستفهام ([79]).
13 ـ النفي:
ويتحدث عن استعمال صيغة الاستفهام بمعنى النفي، فيسوق ثلاثة شواهد:
الشاهد الأول: وهو قوله تعالى:) فَمَن يَهْدِي مضنْ أَضَلَّ اللهُ ([الروم: 30/ 29]، يقول: فظاهره استخبار والمعنى: لا هاديَ لمن أضل الله" ([80])، ولا يكتفي بتفسير الاستفهام بمعنى النفي، بل يسوق دليلاً آخر يظهر فيه حسه الفني في استخلاص المراد من ظاهر الكلام، يقول: "والدليل على ذلك قوله في العطف عليه:) وَمَا لَهُم مِّن نَاصِرِينَ ([الروم 30/ 29] " ([81]).
وهكذا نرى أن ابن فارس لم يقف عند حدود الإفادة من السياق الذي دل على أن المعنى هو النفي، بل ساق دليلاً نحوياً على صحة ما ذهب إليه هو العطف عليها بالمنفي، وهذا يؤكد أنه صاحب حس بلاغي اجتمعت فيه النظرية مع التطبيق.
فضلاً عن ذلك فإننا نرى بعض العلماء من بعده قد ذهبوا مذهبه، عندما ذكروا أن الاستفهام قد حقق معنى النفي ([82]).
الشاهد الثاني: هو قول الفرزدق:
أيْنَ الذين بهم تُسَامي دارِماً
¥