أمْ مَن إلى سَلَفَيْ طُهَيَّهَ تَجْعَلُ ([83])
والاستفهام أفاد النفي، لكن ابن فارس لا يشير إلى دليله على معنى النفي، كما فعل في الشاهد السابق، إذ قد تبين أن في السياق ما يدل على ذلك، وهو كون المستفهم عنه من الأساليب التي أفادت التحدي أو التهكم، على معنى ليس لهم مما ذكر شيء.
الشاهد الثالث: هو قوله تعالى:) أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ([الزمر: 39/ 19]، يقول مشيراً إلى معنى النفي: "أي لست منقذهم" ([84]).
وما ذهب إليه ابن فارس وافقه عليه أبو حيان الذي أسماه استفهام توقيف، لكنه عندما شرح الآية أشار إلى معنى النفي بقوله: "وقدّم منه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله" ([85])، أما الزمخشري فقد جعل الهمزة للإنكار ([86]). وهذا الإنكار قد يكون أحد أدلة النفي التي دلت عليها الأساليب الاستفهامية؛ لأن الأسلوب الذي يتضمن معنى الإنكار التكذيبي يكون من أدلة الاستفهام الذي أفاد النفي.
14 ـ الإخبار والتحقيق:
ومما عرض له ابن فارس من خروج الاستفهام عن أصل وضعه هو (الإخبار والتحقيق)، يقول: "وقد يكون اللفظ استخباراً، والمعنى إخبار وتحقيق، نحو قوله جل ثناؤه:) هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ([الإنسان 76/ 1]. قالوا: معناه ([87]): قد أتى؟ ([88]) ".
وابن فارس يتفق بذلك مع الرعيل الأعظم من العلماء ([89]) الذين عرضوا لهذه المسألة.
وقد أحسن ابن فارس بالجمع بين العرضين (الإخبار والتحقيق)، فالإخبار هو "الإعلام بالشيء، ويستعمل لإثبات أمر ما، لذا ارتبط بالتحقيق في أسلوب الاستفهام؛ لأنه يتجه إلى اطلاع السامع، أو تثبيت خبر لديه، أو أنه يرمي إلى كليهما" ([90]). وهو هنا في هذا الشاهد يقصد إلى الأمرين معاً.
15 ـ التعجب:
ويشير إلى خروج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى معنى التعجب بقوله: "ويكون بلفظ الاستخبار والمعنى تعجب، كقوله جل ثناؤه:) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ([النبأ: 78/ 1] و) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ([المرسلات: 27/ 12] " ([91]).
وما ذهب إليه ابن فارس من إفادة الاستفهام معنى التعجب، جاءت آراء العلماء من بعده موافقة لرأيه أو مقاربة له، يقول الزمخشري في الآية الأولى: هي لتفخيم الشأن ([92])، ويرى في الآية الثانية اجتماع غرضين هما: "تعظيم اليوم وتعجيب من هوله" ([93]). أما أبو حيان فقد رأى في الآية الأولى اجتماع أربعة أغراض هي: التفخيم والتهويل والتقرير والتعجيب ([94])، وذهب في الآية الثانية مذهب الزمخشري من أنها تعظيم لذلك اليوم، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة ([95]).
وهكذا نرى أن الآراء تتفق أحياناً، وتتغاير أحياناً أخرى لكن ـ ومع هذا ـ يبقى غرض التعجب هو الغالب في كل ما ذكر، فإليه يشير السياق، والمعنى يطلبه؛ لأن من ضمن معاني التعجب ـ لغوياً ـ أنه إنكار ما يرد عليه لقلة اعتياده ([96])، ولأنه كذلك قليل الاعتياد فهو يوحي بالتعجب أولاً، وبمعانٍ أخرى قد تشترك معه مثل: التهويل والتفخيم… وغير ذلك، وهذا يعني أن معظم ما ذكر من آراء لم يجانب أصحابها فيها الحقيقة. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنه يؤكد مدى دقة ابن فارس في استقراء السياق وما ينضوي خلفه من فوائد وأسرار بلاغية.
ولكن ـ ومع هذا ـ لنتريث قليلاً في الحكم لابن فارس؛ لأن نظرة دقيقة على ما ورد عند ابن قتيبة تؤكد أن ما ذكره ابن فارس منقول بنصه وأمثلته عنه ([97]). ولا يعني هذا أن نقلل من جهد ابن فارس، وذلك لأمرين، الأول: أنه الموضع الوحيد الذي نقله عنه في دراسة الاستفهام، والأمر الآخر: أنه لم يُسلم له بكل ما ذكر، بدليل أنه خالفه في بعض القضايا التي عرض لها، كما أنه تجاوزه عندما توسع في تناول هذه الأسرار البلاغية، كما سنبين لاحقاً ([98]).
ـ الاستفهام المجازي بين ابن فارس وأبرز السابقين واللاحقين له من العلماء:
¥