تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن مما لا شك فيه أن جميع الباحثين والمفسرين للقرآن في تلك الحقبة المتقدمة وقفوا عند خروج الاستفهام عن معناه الوضعي إلى معان بلاغية، لكن هذا الوقوف جاء متفاوتاً متبايناً، فنظرة فاحصة على من سبق ابن فارس تظهر لنا أنه قد وعى بحق جهد من سبقه من العلماء فأفاد منه ما أفاد، وأضاف إليه ما أضاف مما جادت به بصيرته الواعية، وذوقه الفني في قراءة النص، وما وراء النص من معان وأغراض.

فعلى سبيل المثال تحدث سيبويه (ت 180 هـ) عن الاستفهام، فنثر آراءه فيه في أكثر من موضع ([99]) وكانت له وقفات خاصة بيَّن فيها المعاني المجازية للاستفهام، فذكر منها: التنبيه، والتعجب، والتوبيخ، والتقرير، والتسوية ([100]).

كما أن الفراء (ت 207هـ) تناول بعض أشكال الاستفهام المجازي فذكر منها: الإخبار، والتعظيم، والتعجب، والتوبيخ ([101]).

وأبو عبيدة (ت 208 هـ) كان مدركاً التغير في مدلول الاستفهام وخروجه عن أصل وضعه إلى أغراض بلاغية، ذكر منها: الإخبار والتقرير، والتوعد، والنفي، والتهديد، والاستفهام بـ (هل) الذي أفاد معنى قد ([102]). لكن مما يؤخذ عليه أنه أحياناً لم يكن دقيقاً في فهم المعنى المجازي للاستفهام، وخير دليل على ذلك ما أشرنا إليه من أن قوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ([البقرة 2/ 6] هو استفهام بمعنى الإخبار، وقد بينا رأي ابن فارس ونقلنا آراء العلماء فيه ([103]).

فضلاً عن ذلك فإن المعاني البلاغية للاستفهام قد تتداخل لديه، فيصعب على القارئ أن يتبين توجيهه المجازي للشاهد ([104]).

وإذا ما وصلنا إلى الجاحظ (ت 255 هـ) فإننا سنلمس غياب أسلوب الاستفهام عن اهتمامه ([105]).

لكن ما إن نصل إلى ابن قتيبة (ت 276 هـ) حتى نرى أن دراسة هذا الأسلوب قد اتخذت منحى مغايراً لما سبق، إذ طرأ على دراسته شيء من التطور، تمثل في تنظيم المادة وتبويبها، ضمن أبواب مستقلة، ولكن، ومع كل هذا الجهد الذي بذله، نرى أنه لم يوفّ هذا الأسلوب حقه، إذ جعله من ناحية ضمن مبحث الخروج على مقتضى الظاهر ([106])، ومن ناحية أخرى اكتفى بالإشارة إلى ثلاثة أغراض بلاغية هي: التقرير، والتعجب، والتوبيخ ([107]). وقد كنا بينا أن ([108]) ابن فارس أفاد من أستاذه ابن قتيبة، فنقل عنه كل شواهده في غرض التعجب، لكن مع هذا النقل، فإنه لم يسلم له بكل ما ذكر؛ بل خالفه في أمور أخرى كنا قد أشرنا إليها في موضعها، مما يؤكد استيعاب ابن فارس لدقائق هذا الأسلوب وتفاصيله إلى حد أنه تجاوز أستاذه.

ونثر محمد بن يزيد المبرد (ت 285 هـ) كثيراً من مسائل الاستفهام في كتابيه الكامل والمقتضب، وعرض لبعض الأغراض البلاغية، فذكر منها: التقرير، والتوبيخ، والتسوية ([109])، لكنّ الباحث في دراسة جهوده يحتاج ـ كما هي الحال عند من تقدمه أمثال: سيبويه، والفراء، وأبي عبيدة ـ أن يلم شتات هذه الموضوعات حتى يكّون فكرة دقيقة عنها، وعما طرأ عليها من تطوير.

وعرض ثعلب (ت 291 هـ) في كتابه (قواعد الشعر) لأسلوب الاستفهام فجعله القاعدة الرابعة من قواعد الشعر، التي هي: الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار. وكنا نتوقع من ثعلب، وبعد كل هذه المراحل التي مر بها هذا الأسلوب، وبعد أن أفرد له مبحثاً مستقلاً أن يسهم فيه بنصيب مثمر، لكن ما حدث هو النقيض من ذلك، إذ لم يقف عند حد الاكتفاء بشاهد واحد له ([110])، بل لم يسعَ لأن يشفعه بأي نوع من الدرس أو التحليل. وبذلك نقول مطمئنين: إن دراسة هذا الأسلوب لم تتطور أبداً على يدي ثعلب.

وبعد ذلك اتجه التصنيف اتجاهاً جديداً فيه نوع من التخصص، إذ ألَّف ابن المعتز (ت 296 هـ) كتابه (البديع)، وقدامة بن جعفر (ت 337 هـ) كتابه (نقد الشعر) تناولا فيهما كثيراً من موضوعات البلاغة، إلا أن غياب أسلوب الاستفهام كان واضحاً في كتابيهما.

وتحدث ابن خالويه (ت 370 هـ) ([111]) عنه، فحصر كل أغراضه بستة أغراض هي: التوبيخ، والتقرير، والتعجب، والتسوية، والإيجاب، والأمر ثم استدل على كل نوع بشاهد من القرآن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير