تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا ننكر أن هناك ثلة من النقاد العرب (4) استطاعت بعد زمان طويل من الانتظار أن يقتحموا هذا الباب بكل صعابه ومعوقاته متخذين من قضية "جمالية المكان" موضوعا لبعض دراساتهم خصوصا الروائية .. لكنها في مجموعها لا تكفي للتدليل على أن المسألة أضحت قضية أو إشكالية نقدية في أدبنا العربي .. مع الإشارة إلى أنها دراسات تتوسل المنحى الفكري العقلي في مفهومه للمكان ومن ثمة في طرحه لجمالية المكان .. أي أنها تدرس" جمالية المكان" من جانب أحادي هو الجانب الفكري أو النفسي المحض والمباشر فقط .. وفي الأغلب الأعم تقوم هذه الدراسات على الفهم والتصور الغربيين، مع العلم أن الفكر الغربي له خصائصه ومرتكزاته ومقوماته ومنطلقاته وأهدافه ومحدداته، وإن روجوا لعالميته وإنسانيته، تختلف- على الأقل - مع الفكر العربي الخالص نفسه في أسسه .. فما بالنا إذا قلنا الفكر الإسلامي، فالاختلاف في مثل هذا الموضوع أشد وأوضح، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن ينهل الإسلامي الحكمة من كل فكر لا يصطدم مع الأصول والمقومات والدعائم التي يفخر بها دينه ..

إن قضية " جمالية المكان " في الشعر لازالت موضوعا يحتاج إلى وقفة تأمل وإنعام نظر ودراسات متأنية تراعي كل ما من شأنه أن يساعد على تشخيص "جمالية المكان" في الإبداع الأدبي عموما، والشعري منه على الخصوص، ويرصد الوظيفة الدلالية والمعاني المجازية والتعابير البلاغية والتراكيب الأسلوبية والتخييل الشاعري .. وكذا القضايا الرمزية والأشكال الإيحائية والمقومات الشعرية أو الشاعرية لهذه الجمالية التي يكتسيها المكان في الشعر .. وذلك بالاعتماد على تجزئ المكان الأدبي وإفراد وحداته المادية الملموسة كالبحث في جمالية المدينة أو البيت أو الشارع أو المقهى في الشعر أو أشياء أخرى تحمل خصائص مكانية معينة .. ولكن ليس البحث فيها على أنها فضاء مادي أو وجودي أو كوني، ولكن على أنها فضاء فني أوأدبي أي تعبير لغوي وطريقة أسلوبية تكمن خلفها وظائف دلالية يتوخى منها الإبداع التعبير عن رؤية معينة للكون والوجود والحياة والإنسان والواقع المعيش في صياغة أدبية شعرية متميزة .. وبمعنى أبسط إن جمالية المكان في الشعر لا تقوم على التشخيص المادي المحض للجمال في مكان محدد .. كأن ترصد جمالا بصريا وصفيا – أي يعتمد على حاسة البصر –، أو تعمد إلى تحريك حاسة الاستذكار في ذهن المتلقي أي أن يطرح الشعر مكانا يجد له في ذهن القارئ/المتلقي نظرة معينة لها ارتباط بالأحداث والوقائع والأشخاص الذين عاشوا فيها أو لا زالوا يعيشون فيها ... فهذه نظرة تاريخية تسرد الماضي وتكتفي بما يوحيه، أو تصور الحاضر وتقف عند ما يمليه، مع أن الإبداع قد لا يقصد إلى ذلك قصدا، وإن توفر فيه ذلك .. ولهذا نجد على سبيل المثال فقط كتابات عديدة تتناول بالبحث والدراسة موضوع "البحر في الأدب" (5) .. ولكن لا نقرأ فيها إلا عن الرحلات التي كانت مناسبة أو سببا لقول الشعر الحامل لموضوع البحر كمكان لغوي لكنه لايختلف دلاليا ووظيفيا عن المكان الواقعي سواء عند العرب أو عند غيرهم من الأمم الأخرى ..

ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن الجمال البصري أو الجمال الذهني/التاريخي – إن صح هذان التعبيران – في رسم جمالية المكان، ولكن لايكفي ذلك ولا يغني، لأن اللغة الشعرية المتميزة من طبيعتها أنها لا تحيل على الواقع الملموس في ماديته بشكل مباشر، أو هي بما أنها لغة شعرية لا تقصد إلى هذا النوع من الإحالة الجافة، وإنما تحيل على المكان في دلالاته وإيحاءاته ورمزيته ووظائفه وبنياته المفهومية .. إنها لا تحيل على المكان في هندسته الطولية والعرضيه والعمودية والأفقية أو في شكله المربع أو المستطيل أو المثلث أو الدائري، أو في شكله العمراني .. وإنما تحيل عليه في إطار ما يحمل من معاني تثير النفس أو تثير ما فيها من أحاسيس، وتحرك الوجدان الذي يفرز ما عنده من شعور ولا شعور، وتغني الفكر، وتمتع العقل، وتروح عن الفؤاد، وفي إطار ما يزخر به ذلك المكان من دلالات تبني أفقا شعريا ينبعث الجمال من تراسيمه .. وتحيل عليه أيضا في إطار ما يكنه من وظائف من أجلها كان هذا المكان أو ذاك مختارا في نص معين أو نصوص شعرية محددة دون غيره من الأماكن ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير