تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي كلمة إن الشعر يرفض التعامل مع المكان الميت أو على الأقل في شكله المشوب بالموت، بل إنه يرفض كل سكونية فيه لأنها تذكر بالموت .. إن طبيعة الشعر تأبى السكونية في كل شيء، ولأن عناصره المكونة لبنيته تتمتع بكل مواصفات الحركة والسمات الحركية .. هكذا عهدنا الشعر، وهكذا هو في أصله .. أما إذا امتلك الشاعر هذا الوعي بطبيعة المكان فإنه يفعل فيه فعلا تفجيريا وخلاقا .. وهكذا تجتمع طبيعة الشعر ووعي الشاعر ليتحدا فيكونا من اللاشيء شيئا يرتع في عالم الجمال، ويزهو في فضاء السحر، ويسبح في بحر البهاء ..

إن " جمالية المكان " –كما أشرنا من قبل - لا تتحدد من خلال ما يثيره فينا المكان عن ماضيه أو حاضره أو حتى مستقبله فحسب، أو ما يحركه في دواخلنا من أخبار وأحداث ووقائع تنسب إليه أو تحال عليه فقط .. أو ما يبعثه فينا من تشوق إلى رؤيته أو إلى استحضاره في الذهن واستذكاره ليس غير .. إن للمكان الحق في أن يثير ويحرك ويهز فينا كل هذه الأشياء والقضايا والأمور، لأن له في ذاكرتنا تاريخا قد يغور في الزمان .. وتصورا قد يحمل الكثير من الدلالات .. ومشاهد قد تمتع البصر وتنعش البصيرة وتأخذ اللب وتأسر العقل وتقيد الفؤاد .. ومع هذا كله نرى أن "جمالية المكان " لا تتحدد في شكلها الكامل من خلال ذاتية المكان نفسه بقدر ما تتوضح من خلال وسائل التعبير وطرائق الحديث عنه، أي من خلال ما أسموه "باللعبة اللغوية" والتي تتوضح من خلال الإشارات الأسلوبية والعمليات التعبيرية، ومن خلال الألفاظ والمفردات المنتقاة، ومن خلال التراكيب والبناء اللغوي المختار، ومن خلال الصور البلاغية وما تزخر به من خلفيات إيحائية، ومن خلال المفاهيم والدلالات والرؤى والرموز .. ومن خلال ما تحققه العلائق اللغوية عندما تكوّن بارتباطها وانسجام عناصرها والتحام ألفاظها وتراكيبها صورة أو صورا ومشاهد تعبر عن رؤية معينة لهذا المكان .. وفي الآن نفسه تعبر عن رؤية محددة للكون والحياة والإنسان والوجود، كما تفصح عن المستوى الطبيعي الحقيقي ممزوجا بالمستوى الذاتي النفسي والاجتماعي والعالمي والثقافي والفكري والواقعي والخيالي ..

إن المكان في الإبداع الأدبي عامة وفي الإبداع الشعري على الخصوص ليس صورة (فوتوغرافية) أو شكلا مرسوما هندسيا (طوبوغرافيا) كما أنه ليس موصوفا وصفا علميا أو مشهديا أو تشريحيا، وإنما هو تعبير أو تلفظ لغوي أو دال يحمل في ذاته مدلولا ثم يحيل على مرجع معين، ثم يصير من حيث الرؤية إلى مرجع مفتوح يعطي للدال فرصة كبيرة يتناسل من خلالها (6) كما قد يرتبط بدوال أخرى ضمن تركيب لغوي معين، وفي إطار سياق أسلوبي محدد، بل وضمن نص أو نصوص إبداعية متعددة تتفق في استعمالها اللغوي للمكان نفسه .. وهذا يسعف الدال على توسيع دائرة مدلولاته ومرجعه المفتوح .. لذا أصبح لزاما أن تخرج اللفظة المكانية المستعملة في الملفوظ/المتخيل (أي أن يخرج الدال) من المستوى الملموس إلى المستوى المجرد، ومن الإطار المحسوس إلى الإطار المعنوي، ومن المرئي إلى المفهومي أو الرؤيوي، ومن مجرد التذكر إلى التفكر والارتقاء في التخيل ..

إن أماكن الإبداع الشعري لغوية بالضرورة وإن أحالت على ما هو مادي في الأصل .. تتحرك في إطار ما تعطيه اللغة وما تزخر به تراكيبها وما تمنحه من معاني ومفاهيم وما تتمتع به من رؤى وما تحويه من رموز وما تكنه من تشكيل خصوصا إذا فجرها الإبداع الشعري تفجيرا شاعريا يُفيض على مفهوم المكان جمالا وسناء وسلاسة قد لا تبدو للعيان أو حتى للمتفحص الذي يعتمد على اللغة في منطوقها العادي أو في مفهومها الضيق والقاصر، أو في لعبتها غير الناضجة .. أو يعتمد بعض الأدوات النقدية العتيقة/المتجاوزة، أوالتي لم ترق بعد إلى ما آلت إليه الدراسات الحديثة، أو لم تتمتع بنظرة تكاملية توليدية وتفجيرية تعتصر اللغة الإبداعية اعتصارا في أساليبها وتراكيبها وعلائق كل مكوناتها كي تنتهي في ذلك وبذلك إلى الحصول على لب وأسِّ تلك اللغة وجوهرها الذي يحرك الأنفس ويدغدغ الوجدان ويرقى بالفكر ويسحر العقل ويعلو بالروح ويسمو بالفؤاد، ويبرز المادة المدروسة في جوهرها الشفاف، وهي ترقى في معارج الأدبية والشعرية ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير