تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويمكن أن نقسم المكان في الشعر كما في غيره من حيث المبدأ إلى قسمين اثنين: أحدهما يأتي محددا والآخر يكون غير محدد .. وبلغة النحاة القدامى ينقسم المكان إلى جنس وعلم، بمعنى أنه ينقسم إلى اسم جنس وهو الذي لا يختص بواحد دون آخر من أفراد جنسه كدار ومدينة وبحر .... واسم علم وهو الذي يدل على معين بحسب وضعه كدمشق وبغداد والنيل ..... (7).

أما المكان الجنس فهو أوسع دلالة وأشسع وظيفة وأغنى إيحاء وأوفى رمزا من المكان العلم، لأن هذا الأخير محدود الدلالة ويربطنا - نحن معشر المتلقين/القراء – بإطار معين وشكل محدد يفترض أننا نعرفه، كما أنه يفرض علينا التقيد به وبما يوحي به من أمور ترتبط به دون غيره، نفسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا ووجدانيا ... ومع ذلك فإنه بوسع الناقد أن يستغل كل طاقاته النقدية والتحليلية والإبداعية ليزرع الروح الجمالية الواسعة في هذا المكان العلم كي يجعل منه مكانا قريب المفهوم والدلالة من المكان الجنس الذي من طبيعته أنه يفسح المجال للخيال الواسع والتأويلات المختلفة، والقراءات المتعددة، وحتى الإسقاطات المفترضة، كي يسبح في فضائه العريض ويمرح في دلالاته المتنوعة والكثيرة ويتمتع بوظائفه العديدة ..

وأخيرا يبقى المكان " بنوعيه الجنس والعلم" حاملا لدلالات السياق الذي ورد فيه من الإبداع الشعري، ووظائف الانساق اللغوية التي حل في وسطها، ثم طريقة المبدع في استغلاله اللغوي لذلك المكان أو ذاك .. ولا يمكن للناقد أن يخرج عن السياق أو النسق اللغوي أكثر مما يلزم حتى تبقى للمكان جماليته (النصية) - إن صح القيل- وكي لا يتيه المتلقي بين الإبداع في حد ذاته وإبداع قراءة ذلك الإبداع .. وكي لا يضيع القارئ بين اللغة/الخطاب و (الميتالغة/الميتاخطاب)، بل يجب أن يوجد تناغم وتوافق وتكامل وانسجام بين الإبداع ونقده، بحيث إذا كان الإبداع يحاول ملأ بياض فضاء ما بسواد الكتابة، فإن القراءة يمكن اعتبارها محاولة أخرى من المتلقي لملإ ما استطاع من جُزَيْآتِ ما تبقى من بياض ذلك الفضاء أي ما لم يملأه الإبداع .. وفي إطار التدافع بين سواد الإبداع وسواد قراءة الإبداع تكون – بعدهما- عملية التلقي قد احتفظت من كل منهما على ما أثبت قدرته الجمالية على البقاء والاستمرار (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد:19)

ثم إن الجمالية نفسها في قراءتنا تعتبر تقنية لغوية بل لعبة لغوية محض – كما يحلو لبعضهم أن يقول - فهي (أي الجمالية) ليست الجمال الذي نعرفه ونفهمه عادة بأنه الشيء الذي يثير في النفس معاني الخير والفضيلة والسمو أو يضرب فيها على أوتار الفرح والسرور والبهجة والغبطة، أو يحرك فيها كوامنها الاعجابية والاندهاشية، أو يدفعها إلى الاستغراب واستحضار مدى المهارة والبراعة والدقة في الصناعة الأدبية والإبداع الشعري .. وإنما الجمالية، مع ما تتوفر عليه من هذه المكونات نفسها وغيرها، تستعمل كتقنية لغوية قد يستشفها الناقد ثم يبرزها من داخل الإبداع، وقد يتمثلها المتلقي، دون أن يراعيها المبدع أو يفطن إليها أو قد يكون استضمرها ..

فالجمالية إذن تستعمل - كما قلنا- كتقنية لغوية تصور مكانا ما أو أي شيء آخر بأسلوبها المتميز وتعبيرها الدال وتجريدها الموحي كي تنقل المتلقي من عالم المحسوس/الملموس إلى عالم المفهوم/المجرد سواء أأثارت بذلك في قرارة نفسه دواعي الفرحة والغبطة والسرور، أو أثارت فيها مكامن الحزن والهم والغم، وسواء أوجهته إلى مواطن الخير والفضيلة أو حولته إلى مكامن الشر والرذيلة، أو حركت في دواخله مثيرات أخرى مختلفة .. وسواء أصورت- هذه التقنية/اللعبة اللغوية- مكانا ساميا ومقدسا، أو مكانا دانيا ومدنسا .. فالمهم هو أن يستطيع المبدع تصوير ما يريده، بوعي أو بلا وعي، بأسلوبه الخاص الذي يفوح سلاسة، ويمتلئ ماء شعريا، ويتضوع إيحاء وتصويرا، ويمتاز إيقاعا وبلاغة، مما يمكن المتلقي من الافتتان بجمالية هذا المكان أو ذاك الشيء أسلوبيا ودلاليا ولغويا، وليس ماديا/ بصريا/ حسيا ولا حتى فكريا .. لأنه كثيرا ما يكون الشيء قبيحا في ذاته وليس جميلا في أصله، ولكن الإبداع المتميز ينسينا قبحه، ويستر عنا سوأته، ويحجب كل ما ينفرنا منه عندما يتمكن المبدع من أن يصوره بطريقة أدبية جميلة تُسْقَطُ عليه إسقاطا جميلا وليس

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير