تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقالها في مقتل الأفشين ... تركيزي على نص واحد هو محاولة لكشف وظيفة التناص، ومدى تناغم التناصات المتعدّدة في النص الواحد إنتاج الدلالة المطلوبة، وبذلك فإنني من خلال التعريفات السابقة للتناص، والعلاقات النصيّة، أعرّف التناص بأنه العلاقة المقصودة بين نص ونص آخر أو نصوص، أو قصص أو حوادث تاريخية، تهدف إلى حمل دلالة أو رؤية أو غير ذلك من الأهداف التي يكشفها النقد، وإنما أردت حصر المفهوم بهذا التعريف حتى أكون أكثر صرامة في التعامل مع شاعر كأبي تمام تشرّب لغة القرآن وأشعار العرب، حتى إنه لا تكاد تخلو قصيدة أو مقطوعة له من تأثر أو تضمين.

ثانياً: النص

1 ـ تسويغ التناص.

2 ـ وتناص التسويغ.

هذه القصيدة قالها أبو تمام في مدح المعتصم وتعزيته بعد أن قضى على الأفشين، كان له مكانة مهمّة عند المعتصم، وفي القصيدة يمدح المعتصم، ويصف ما قام به الأفشين من (غدر)، ثمّ يصف قتل الأفشين وحرقه، ويحرض المعتصم على قتل أهل الأفشين، وقومه، ثم ينصح الخليفة بأن يشدّ الخلافة بابنه هارون (الواثق).

وبناء القصيدة جاء متنامياً تنامياً تفسيرياً بعدّة ذروات، دون أن يكون هناك ذروة مَفصلية تشكل مرتكزاً للنص؛ نظراً لتعدد موضوعاتها؛ فقد كانت تعالج قضية واحدة من عدّة جوانب، فالمعتصم قد وثق بالأفشين، والأفشين قد قام بأعمال تعزز هذه الثقة والمكان بقلب المعتصم، منها قضاؤه على بابك الخرّمي (18)، ثمّ إن دسيسة وقعت بين الأفشين والمعتصم، حيث صوّر الأفشين متربصاً بالخلافة، وصوّر المعتصم متربّصاً بالأفشين، فرأى كل منهما انقباض صاحبه، فصار شكّه يقيناً، إلى أن قبض المعتصم على الأفشين فقتله وأحرقه (19).

وأبو تمام إذ يقول هذه القصيدة بهذه المناسبة، فإنه يطرقها من جميع الجوانب مبرزاً بشاعة الغدر وصوره، مستثمراً التاريخ والثقافة الإسلامية في ذلك، ومن هذا الجانب؛ فإن الدراسة تهدف إلى رصد التناص أولاً، ثم الكشف عن الوظيفة التي يؤديها ثانياً، ثم الكشف عن العلاقات القائمة بين التناصات المختلفة في النص.

ومن أجل توضيح منهج الدراسة فإنني سأركز على التناص الواضح من خلال الإشارات التي ترد في النص، تاركاً التناصات الأخرى من لغة وتشرّب صورة؛ لأنني أظنّ ـ في جانب اللغة ـ أن لغة أبي تمام متأثرة تأثراً كبيراً بلغة القرآن الكريم، وكذلك التصوير عنده، فأبو تمام يتشرّب الكثير من تصوير القرآن الكريم في نصوصه، ولا أظنُّ في ذلك تناصاً موجهاً بقدر ما فيه من تأثر أملته ظروف تشكّل الملكة اللغوية والمعجم الشعري لديه.

أما الأحداث التاريخية والقصص، فإنها بنظر ـ عند أبي تمام ـ تعد استثماراً مدروساً يؤدي خدمة معنويّة في النص، لذا فإن تركيزي في هذه الدراسة سيكون عليها.

مبرّرات التناص

يقول أبو تمام:

الحَقُّ أبلَجُ وَالسُيوفُ عَوارِ= فَحَذارِ مِن أسَدِ العَرين حَذارِ

مَلِكٌ غَدا جارَ الخِلافَةِ مِنْكُمُ= وَاللهُ قد أوصى بحِفظِ الجارِ

نلاحظ أن أبا تمام يحذر في البيت الأول من غضب الخليفة، وسطوة الحق، ويستثمر في البيت الثاني الآية الكريمة] وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى [(20) فهل جاء هذا التناص مجّانيّاً؟

العمل الذي جاء به الخليفة لا بدّ له من مبرر شرعي، والمبرر الشرعي هو أنه جار الخلافة، والله قد أوصاه بحفظ جاره، إنّه استثمار لإضفاء القدسية على عمل الخليفة.

ثمّ يقول:

يا رُبَّ فِتنَةِ أمَّةٍ قَد بَزَّها= جَبّارُها في طاعَةِ الجَبّارِ

جالَت بِخَيدَرَ (21) جَولة المِقدارِ= فَأَحَلَّهُ الطُغيانُ دارَ بَوارِ

فهذه الفتنة في خدمة الدين، في خدمة الله وطاعته؛ إذ إنّها أودت (بخيدر) وكشفت غدره، وهنا نجد تناصاً مع قوله تعالى:] وأحلّوا قومهم دار البوار [(22) وهذا التناص يوظّف من أجل دمغ الأفشين بالطغيان, فلنتأمل المقارنة الآتية بين البنية النحوية والدلالية للآية الكريمة، والبنية النحوية والدلالية لجملة أبي تمام:

القرآن الكريم:] وأحلّوا قومَهم دار البوار [.

جملة أبي تمام: وأحلّه الطغيان دار بوار.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير