تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَإنَّ عِراراً إن يَكُن غَيرَ واضِحٍ= فَإنّي أُحِبُّ الجَونَ ذا المَنكِبِ العَمَمَ

فَإن كُنتِ مِنّي أو تُريدينَ صُحبَتي= فَكوني لَهُ كَالسَمنِ رُبَّت لَهُ الأدَم

فالتناص هنا تناص تلخيص، جاء لتخليص المعنى وتعميقه في آن. أما المآل الذي آلت إليه هذه الرعاية فهو:

فَإذا اِبنُ كافِرَةٍ يُسِرُّ بكُفرِهِ= وَجداً كَوَجدِ فَرَزدَقٍ بِنَوارِ

وَإذا تَذَكَّرَهُ بَكاهُ كَما بَكى= كَعبٌ زَمانَ رَثى أبا المِغوارِ

كان الأفشين يضمر كفره في نفسه، ويجد في هذا الكفر وجداً كوجد الفرزدق بحبيبته نوار، ويأتي استدخال قصّة الفرزدق مع النوار حبيبته من أجل التلخيص والإبعاد في الوصف، وإذا كان ذلك الكفر لا يمكن له أن يظهر في حضرة الخليفة، فإنه في عداد الموتى، وإذا ما تذكّر الأفشين عبادته السريّة بكى لها، كما بكى كعب بن سعد الغنوي أخاه أبا المغوار، وهنا يستدخل قصّة سعد على سبيل الإبعاد في تصوير تلك العلاقة بين الكفر والأفشين، فهو له أخ وحبيبة، لكنّه يظهر غير ما يبطن من تلك العلاقة، وهنا تعود صورة المنافق للظهور من جديد.

أما في اللوحة التالية، فإن التناص سوف يوجه توجيهاً تحريضياً، من خلال تحريض المعتصم على استئصال شأفة الأفشين والقضاء على قومه، ولا بد للشاعر من البحث في التاريخ عمّا يمكن أن يسعفه في هذا المنحى التحريضي، فيجد قصّة السامري، وقصّة ثمود، يقول:

يا قابضاً يَدَ آلِ كاوُسَ عادِلاً= أتبع يَميناً مِنهُمُ بيَسارِ

ألحِق جَبيناً دامِياً رَمَّلتَهُ= بقَفاً وَصَدراً خائِناً بصِدارِ

وَاعِلم بأنَّكَ إنَّما تُلقيهِمُ= في بَعض ما حَفَروا مِنَ الآبارِ

لَو لَم يَكِد لِلسامِرِيِّ قبيلُهُ= ما خَارَ عِجلُهُمُ بغَيرِ خَوارِ

وَثمودُ لَو لَم يُدهِنوا في رَبِّهم= لم تَدمَ ناقَتُهُ بسَيفِ قُدارِ

وفي هذه اللوحة التحريضيّة يقدّم التناص خدمة الاحتجاج، ففي البيت الثالث نجده يطمئن المعتصم ـ منطقيّاً ـ إلى عمله بالأفشين وعمله المستقبلي بآله، ولكي يكون ذلك التحريض والتسويغ مقبولاً، فإن أبا تمام يتناص مع قصص القرآن الكريم، بقراءة جديدة لهذا القصص، فالسامري ما كان له أن يصنع العجل الذي عبده قوم موسى لو لم تكن القبيلة توافقه على ذلك، بل تشجّعه، فالتناص هنا تناص محاجّة.

وكذلك ثمود مع صالح عليه السلام، حيث طلبوا منه آية بينة يثبت بها نبوتّه، فقال لهم، هذه الناقة لها شرب يوم معلوم ولكم شرب يوم، وحذّرهم من الاقتراب منها أو الفتك بها، لكنّهم جمعوا رأيهم على التربص بها مستخدمين شتى الوسائل بما في ذلك إغراء النساء، إلى أن تمّ لهم ذلك على يد قدار بن سالف. والملخّص أنّ ما شجّع قدار على عقر الناقة قومه، ولو لم يشجّعوه على ذلك لما قام به!!

وعلى ذلك فإن قوم الأفشين هم من شجعه على أن يغدر، وهم بذلك يستحقون أن يفتك بهم الخليفة، والتناص هنا تناص محاجّة وتحريض.

وفي ما يأتي نجد النصّ يوجّه إلى صورة حرق الأفشين ثانية، ويستغرق في مشهد الصلب بصورة لافتة، يقول:

وَلَقَد شَفى الأحشاءَ مِن بُرَحائِها= أن صارَ بابَكُ جارَ مازَيّارِ

ثانيهِ في كَبدِ السَماءِ وَلَمْ يَكُن= للاِثِنَينِ ثانٍ إذ هُما في الغارِ

وَكَأنَّما اِنتَبَذا لِكَيما يَطوِيا= عَن ناطِسٍ خَبَراً مِنَ الأخبارِ

سودُ الثِيابِ كَأنَّما نَسَجَت لَهُم= أيدي السَمومِ مَدارِعاً مِن قارِ

بَكَروا وَأسروا في مُتون ضوَامِرٍ= قيدَت لَهُم مِن مَربطِ النَجارِ

لا يَبرَحونَ وَمَن رَآهُم خالَهُم= أبَداً عَلى سَفَرٍ مِنَ الأسفارِ

كادوا النُبُوَّةَ وَالهُدى فَتَقَطَّعَت= أعناقُهُم في ذَلِكَ المِضمارِ

جَهِلوا فَلَم يَستَكثِروا مِن طاعَةٍ= معَروفَةٍ بعِمارَةِ الأعمارِ

الجديد في هذه الصورة العميقة الساخرة أنها تتناول الحرق والصلب من حيث أثره في نفس الشاعر "ولقد شفى الأحشاء من بُرَحائِها"، ثم يصوّر هذا الحرق تصويراً كاريكاتورياً ساخراً، فالاثنان في كبد السماء ـ بابك ومازيّار ـ أحدهما ثنا الآخر، فمازيّار ثنى بابك في كبد السماء ثم ثُني جانبه، والتناص مع قوله تعالى:] إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [(30)، هذه بداية الصورة الكاريكاتورية التي يستمر في رسمها، فيصور حالهما مصلوبين كأنهما انتبذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير