تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن أسطرة النار هنا تُقدَّم لسببين، أما الأول فهو الخدمة الشكلية، فلوحة النار تتوسط لوحتين: اللوحة التي تسبقها وهي لوحة نفاق الأفشين وغدره، وكفره ومشروعيّة حرقه، واللوحة التي تليها والتي ترسم مكانة الأفشين عند المعتصم سابقاً، فلوحة النار تصعيد عن اللوحة الأولى ـ لوحة الغدر ـ وتوطئة للوحة الحسرة والندم على ما كان من مكانة للأفشين عند الخليفة، أما السبب الثاني، فهو معنوي، فقد أراد تسويغ الحرق بالنار من خلال ما يثبّته بحق الأفشين، بأنه من أهل النار الذين يعبدونها، فهل الأفشين من عبدة النار، أم كونه فارسياً هو ما جلب له التهمة هذه؟

إن البحث في ذلك يخرجنا عن موضوع بحثنا ـ التناص ـ لكنّ تثبيت لوحة النار هذه ومنظر الحرق مهم لأنه سينبني عليه ـ فيما بعد ـ بعض التناصات، يقول:

يا مَشهَداً صَدَرَت بفَرحَتِهِ إلى= أمصارِها القُصوى بَنو الأمصارِ

رَمَقوا أعالي جِذعِهِ فَكَأنَّما= وَجَدوا الهِلالَ عَشِيَّة الإِفطارِ

وَاِستَنشَأوا مِنهُ قتاراً نَشرُهُ= مِن عَنبَرٍ ذَفِرٍ وَمِسكٍ داري

وَتَحَدَّثوا عَن هُلكِهِ كَحَديثِ مَن= بالبَدوِ عَن مُتَتابعِ الأمطارِ

وَتَباشَروا كَتَباشُرِ الحَرَمَينِ في= قُحَمِ السِنينِ بأرخَصِ الأسعارِ

ونلاحظ في هذه البيات أن الأشياء تُزاح عن مدلولاتها، فيظهر الحرق بصورة احتفالية باهرة، فالجذع المحروق يصبح هلالَ العيد، وقتار الحرق يصير مسكاً وعنبراً، وخبر الحرق كخبر الأمطار عند البدو، وكبشرى رخص الأسعار في السنين القاحلة!!! هل تصوّر هذه المقطوعة مشهد حرق أحد قادة الجيوش الإسلامية في عهد المعتصم؟ هل تصوّر مقتل وحرق قائد تشير الكتب التاريخية إلى أنه كان الرجل المدلل في بلاط الخليفة؟ الرجل الذي كان له وحده الحق في الدخول على الخليفة بلا استئذان؟ أم أنها تصوّر حرق عدوّ طال بطشه وجبروته الناس كلّهم لتكون نهايته بهذا التأثير في حياة الناس ويرونه بهذه الصورة؟!!!!

إن النص ينفتح في هذه المقطوعة أو اللوحة على الحياة الشعبية، ويحيل إلى ما لدى المتلقي من ثقافة حياتيّة، وهو يقدّم مبرّراً شعبيّاً لحرق الأفشين، فالأمة تنتظره بقليل صبر، حتى أنهم تباشروا بهذا الحرق، وفرحوا به فرحهم بثبوت العيد، ومطر البادية، ورخص الأسعار، وربّما كان في لفظة (الحرمين) ما يشير إلى عام الرّمادة!!!.

وربما تجيب اللوحة التالية عن بعض هذه التساؤلات، ويبقى بعضها معلقاً لانفتاح النص على غير قراءة، وغير زاوية نظر، ففي اللوحة التالية يدخل النص إلى مكانة الأفشين سابقاً عند الخليفة، فإذا كان في التناصات السابقة يبيّن المبرر الشرعي، والمبرر الشعبي للحرق، فإن التناصات التالية تبيّن المبرر الأخلاقي ـ الشخصي ـ لذلك الحرق، ويمهّد للوحة بقوله:

كانَت شَماتَةُ شامِتٍ عاراً فَقَد= صارَت بهِ تَنضو ثِيابَ العارِ

فالشماتة مباحة في حال الأفشين، ولم تعد عيباً أو عاراً على الشامت .... ، كأن أبا تمام استشعر أنه إنما يشمت بالأفشين، وكأنه استشعر عدم تعاطف الثقافة الشعبية ـ التي استنهضها في اللوحة التي سبقت هذا البيت ـ مع ما يقوله بحق الأفشين، ولكي تكون الشماتة مسوّغة فلا بد من اللوحة الآتية التي يعالج فيها ما كان للأفشين من مكانة عند المعتصم، يقول أبو تمام:

قَد كانَ بَوَّأهُ الخَليفَة جانِباً= مِن قلبِهِ حَرَماً عَلى الأقدارِ

فسَقاهُ ماءَ الخَفضِ غَيرَ مُصَرَّدِ= وَأنامَهُ في الأمن غَيرَ غِرارِ

وَرَأى بِهِ ما لَم يَكُن يَوماً رَأى= عَمرُو بنُ شَأسِ قَبلَهُ بعِرارِ

هذه مكانة خيدر عند المعتصم، فقد أسكنه قلبه، وحنا عليه، وأشعره بالأمن والطمأنينة حتى أنه رأى به ابنا سقاه ماء الخفض، وفي ذلك تناص مع قوله تعالى:] وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغيراً [(28)، والتناص هنا يقدّم خدمة شعريّة من خلال الإزاحة، فالمفروض أن يكون الخافض الابن لا الأب، لكنّه يقدم الأب خافضاً (29)، ثمّ يلخّص العلاقة والتناص بشخصيّة اشتهرت بحبّ ابنها، شخصيّة عمرو بن شأس الأسدي الذي أحبَّ ابنه حبّاً فائقاً، حتى أنّه فضّله على أمه (أو حبيبته)، وقال فيه لوحة شعرية اشتهرت عنه:

أرادَت عِراراً بالهَوانِ وَمَن يُرِد= عِراراً لَعَمري بالهَوان فَقَد ظَلَم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير