رأى الحمدانيون أنهم يمثلون العنصر العربي، وأن السبيل لبقائهم هو المجد والبأس والجود وغيرها من المثل العربية العليا، ولقد عبر عن ذلك أبو فراس بقوله ([13]):
لئن خُلق الأنام لحسْوِ كأسٍ
ومزمار وطنبور وعودِ
فلم يُخلق بنو حمدانَ إلا
لمجد أو لباس أو لجودِ
هذا ما يخص قبيلة أبي فراس تغلب وبني حمدان، أما هو نفسه والموت، فقد كانا صديقين حميمين منذ البداية حتى النهاية، لم يفترقا أبداً. فقد شاء القدر أن يسميه أبوه (الحارثَ)، وأن يُكَنِّيه (بأبي فراس) ([14])، والاسم اسم الأسد ([15])، والكنية كنيته ([16])، ولكل من اسمه نصيب عامة، لذلك أثر كل من الاسم والكنية في حياته، ولو بصورة غير مباشرة، تأثيراً كبيراً شجاعة وبسالة وإباء.
كما شاء القدر أيضاً أن يُقتل أبوه، وهو صغير في الثالثة من عمره. ومقتل أبيه مأساة مركبة معقدة، لأن قاتله هو ابن أخيه ناصر الدولة، والذي هو في الوقت نفسه ابن عم أبي فراس، وأخ لوليه ومربيه وولي نعمته وزوج أخته سيف الدولة ([17]). إن مقتل أبيه شوكة في خاصرته ظلت تؤلمه حتى نهاية عمره، إنه لم يستطع نزعها بأن يأخذ بثأره، ولم يستطع أن يشكو أو يتأوه، بل لم يكن يملك إلا أن يقدم آيات الطاعة والتبجيل لقاتل أبيه عندما كانا يجتمعان في بلاط سيف الدولة بحلب، يدفعه إلى ذلك ولاؤه لولي نعمته سيف الدولة، وولاؤه لأهله الحمدانيين. وهذه المعاناة تركت في نفسه جراحاً لا يستطيع لها برءاً، وتمزقاً لا يمكن رتقه، وداء لا شفاء منه حتى الموت.
نشأ أبو فراس على الفروسية في بلاط سيف الدولة بحلب، بعدما انتقل إليه من الموصل إثر مقتل أبيه، وتعلم فنون القتال والعلم والأدب وغير ذلك من صفات الإمارة والفروسية فيه، ثم ولاه سيف الدولة إمارة منبج عام 336هـ ([18])، وكانت آنذاك ثغراً عربياً يقف سداً منيعاً في وجه غارات الروم وأطماعهم من جهة، وثورات الأعراب مثل بني كليب وكلاب وقشير وكعب من جهة ثانية، واستمر على هذه الحال إلى أن أُسر عام 351هـ أو غيره، وقد اختلف المؤرخون في ذلك، ولتحقيقه مجال آخر ([19]).
استطاع أبو فراس أن يقوم بما تفرضه عليه واجبات الإمارة خير قيام، فكان دائماً على أهبة الاستعداد لتلبية ما يطلبه منه سيف الدولة من مهمات لقتال الروم أو الإعراب، ولم يكتف في حروبه هذه بأن يبلي البلاء الحسن، وإنما نجد غريزة الموت أو غلّوه في الشجاعة يدفعه إلى أن يتجاوز مرات كثيرة حدود ما تطلبه منه واجبات الإمارة من مواقف، فيخاطر بنفسه، ويعرضَها للهلاك المرة تلو المرة، الأمر الذي أدى إلى وقوعه أسيراً بيد الروم، ويؤكد هذا كلام سيف الدولة لأم أبي فراس عندما طلبت منه افتداءه من الأسر، وهو: ولدك ابن عم، وخال أولادي، ولكني عجزت وأنا أنصحه ألا يترك بنفسه إلى الميدان عند وقوع الحرب، لأنه أمير سردار (قائد)، وليس للسردار شجاعة إلا بثباته تحت علمه، وقد فديته قبل هذا مرتين ([20]).
استمر أبو فراس في الأسر، حتى افتداه سيف الدولة عام 355هـ، وفي فترة أسره لم يبتعد عن الموت، إنما كان يشعر به، ويتغنى بذكره كل يوم تغني الحبيب بحبيبه من أول أيام أسره حتى آخرها، فقال في بداية أسره ([21]):
من كان مثلي لم يبتْ
إلا أسيراً أو أميرا
ليست تحلُّ سراتُنا
إلا الصدور أو القبورا
وقال أيضاً مخاطباً سيف الدولة بصورة غير مباشرة ([22]):
معللتي بالوصل والموتُ دونَهُ
إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
قتيلك قالت أيهم فهمُ كثر
ويا ربَّ دار لم تخفني منيعةٍ
طلعتُ عليها بالردى أنا والفجر
وهل يتجافى عنّيَ الموت ساعة
إذا ما تجافى عنّيَ الأسر والضر
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره
فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر
وإن متُّ فالإنسان لا بد ميّتٌ
وإن طالت الأيام وانفسح العمر
ونحْن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدور دون العالمين أو القبر
إن اللافت للنظر مما تقدم أنه لم يخل بيت من ذكره للموت مرةً أو أكثر، وكأنه فرس جموح كامن في اللاشعور لديه، فهل يؤكد ذلك صحة الفرضية التي ذهبنا إليها، لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وهذه حقيقة لا جدال فيها في علم النفس. كما قال أيضاً في رثائه لأمه عندما أتاه خبر موتها وهو في الأسر ([23]):
نُسلَّى عنك أنّا عن قليل
إلى ما صرت في الأخرى نصيرُ
¥