ولم يجعله الأسر يغير من منهج حياته بعدما افتداه سيف الدولة، وعيّنه أميراً على حمص وأعمالها، وأنّى له ذلك!! .. لقد استمر في اندفاعه نحو الموت كأن شيئاً لم يكن، تدفعه إليه تلك القوة الغاشمة الخفية الكامنة في لا شعوره، والتي كانت تدفعه إليه قبل أسره، لذلك نجده بعد موت سيف الدولة عام 356هـ ([24])، واستلام ابنه اليافع أبي المعالي سعد الدولة لإمارة حلب ([25])، نجده يتابع سيره في طريقه الآنفة الذكر بخطى حثيثة، وقد ساعده في ذلك أن سعد الدولة لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي خلّفه والد سيف الدولة بموته ([26])، والذي كان من الممكن أن يملأه أبو فراس، فتوجه سعد الدولة إليه في حمص بعد خلاف بينهما، أشعل ناره (قرغويه) غلام سيف الدولة خوفاً من أبي فراس ورغبة منه في أن يكون الرجل الأول في حلب، فانحاز أبو فراس إلى بلدة (صدد) ([27])، ونزل سعد الدولة بسلمية ([28])، وأرسل إليه قائده قرغويه مع غلمان أبيه وجمعٍ من بن كلاب، فخرج إليهم أبو فراس، وكان قتال انتهى بمقتله يوم الأربعاء الثامن من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمئة، فنزل قرغويه فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة، فشُقَّ عليه لأنه لم يرد ذلك، وبقيت جثة أبي فراس مطروحة بالبرية، حتى كفنه أعرابي ودفنه ([29]).
إن هذه النهاية المأساوية المفجعة، تبدو وكأنه كان يتوقعها، ويراها نصب عينيه، ويندفع إليها اندفاعاً غريزياً قاهراً لا يملك له رداً، لذلك نجده من قبلُ قد نعى نفسه إلى ابنته، وأوصاها بالصبر، وأن تلتزم بسترها وحجابها عندما تنوح عليه، وان تندبه بأنه لم يُمتّع بالشباب مع أنه زين الشباب، وذلك في قوله ([30]):
أبنيّتي لا تجزعي
كلُّ الأنام إلى ذهابِ
أبنيّتي صبراً جميـ
لاً للجليل من المصاب
نوحي عليّ بحسرة
من خلف سترك الحجاب
قولي إذا ناديتني
ووعيتُ عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا
س لم يُمتّع بالشباب
وإذا كان الموت واحداً مهما تعددت أسبابه، فإن أبا فراس قد نظر إليه من زوايا متعددة، وتحدث عنه أحاديث اتفقت مع هذه الزوايا، ولا غرو في ذلك، فهو من بني حمدان الذين رآهم لم يُخلقوا كغيرهم، وإنما خُلقوا للمجد والبأس والجود كما مرّ آنفاً، وهذه الغايات التي خلقوا لها، ليس لها سوى الموت طريقاً، الموت لأعدائهم مكللاً بالذل والعار، والموت لهم مكللاً في الأول والآخر بالمكرمات والعز، قال ([31]):
لنا أولٌ في المكرمات وآخرُ
وباطنُ مجدٍ تغلبيٍّ وظاهرُ
وهم لا يرضون إلا بواحد من اثنين، لا ثالث لهما، الصدر أو القبر، قال ([32]):
ونحْن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ
وأن نفوسهم قد هانت في طلب المعالي، كما قال ([33]):
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن خطب الحسناء لم يُغْلها المهرُ
إنهم لا يهابون الموت، بل يرحبون به، ويستضيفونه ضيفاً عزيزاً لديهم، قال ([34]):
وفتيانُ صدقٍ من غطاريف وائلٍ
إذا قيل: ركب الموت، قالوا له: انزلِ
ودأبهم أيضاً أمران أو دمان اثنان، لا ثالث لهما، دم الرجال للأعداء، ودم الجمال للضيفان، قال ([35])
لِلِقا العد بيضُ السيو
فِ وللندى حمرُ النَّعمْ
هذا وهذا دأبُنا
يُودى دمٌ، ويُراق دمْ
وقال أيضاً مفتخراً بوالده وأعمامه ([36]):
أولئك أعمامي ووالديَ الذي
حمى جنباتِ المُلك والمُلك شاغرُ
له بِسُلَيمٍ وقفة جاهلية
تقرُّ بها فَيْدٌ وتشهد حاجرُ
فلم ترَ إلا فالقاً هام فيلق
وبحراً له تحت العجاجة ماخِرُ
وافتخر أيضاً بعمه الحسين بن حمدان الذي قتل الوزير العباس بن المعتضدي وفاتكاً ([37])، قال:
وعمِّيْ الذي أردى الوزير وفاتكاً
وما الفارس الفتاك إلا المجاهرُ
أذاقهما كاس الحمام مُشيَّعٌ
مشاورُ غارات الزمان مُساور
وافتخر أيضاً بعم آخر له هو سليمان بن حمدان الملقب بالحرون لعظمته بالحرب، فقال ([38]):
وعمي الحرون عند كل كتيبة
تخفُّ جبال وهْو للموت صابرُ
¥