تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا بد في قوله هذا أن يستوقفنا أسلوب القصر في أوله (هو الموت) وما فيه من إيحاءات، منها أنه لا يوجد أمام الإنسان مهما طال به العمر أو تعددت به السبل أو طاب له العيش أو غير ذلك، نقول: لا يوجد أمامه سوى الموت يرقبه وينتظره، كما قال طرفة بن العبد من قبل ([56]):

لعمرك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى

لكالطِّوَلِ المُرْخى وثِنْياهُ باليدِ

إن أبا فراس في بطولاته وتحديه للموت أراد أن يضع نفسه الموضع اللائق بها، فالإنسان حيث يجعل نفسه عزاً أو ذلاً، قال ([57]):

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه

وإني لها فوق السماكين جاعلُ

ولقد أكد ذلك مرة أخرى لسيف الدولة حيث قال ([58]):

ولا أعود برمحي غير منحطم

ولا أروح بسيفي غير مختضبِ

حتى تقول لك الأعداء راغمة

أضحى ابن عمك هذا فارسَ العربِ

هكذا كان موقف الشاعر من الموت موقف شجاع راكض إلى حتفه ركضاً لاهثاً سريعاً متكرراً لا يعرف راحة أو بطئاً. ورب قائل يقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان في أسره يطل بالفداء ويلح فيه؟. إنه طلب فداءه وألح في ذلك لا خوفاً ولا جبناً، وإنما كان يأنف أن يموت أسيراً كما يموت الجبناء، ولأنه أراد أن يهرب من موت لا عَناء ولا عزة فيه إلى موت عزيز في ظلال السيوف كما يموت الأبطال الميامين، ونجد ذلك في قوله لسيف الدولة ([59]):

أناديكَ لا أني أخاف من الردى

ولا أرتجي تأخير يومٍ إلى غدِ

ولكن أنفتُ الموت في دار غربة

بأيدي النصارى الغُلْفِ ميتة أكمدِ

ويريد بالنصارى هنا الروم. ولأنه أيضاً كان يريد العود إلى أمه العجوز ليبرها ويدفع عنها الضيم، قال ([60]):

لولا العجوز بمنبجٍ

ما خفتُ أسباب المنيهْ

ولكان لي عما سألـ

ـتُ من الفدا نفس أبيّه

لكن أردتُ مرادها

ولو انجذبتُ على الدنيّه

وأرى محاماتي عليـ

ـها أن تُضامَ من الحميّه

أمست بمنبجَ حُرةٌ

بالحزن من بعدي حَرِيّه

ورب قائل أيضاً يقول: لماذا اختار أبو فراس الأسر على الموت؟. فنجده قد أجابه أبو فراس على تساؤله هذا من قبل، وهو أنه القدر الذي لا يُرد، في قوله ([61]):

أُسرتُ وما صحبي بعزْل لدى الوغى

ولا فرسي مُهرٌ ولا ربُّهُ غَمْرُ

ولكنْ إذا حُمَّ القضاء على امرئ

فليس له برٌّ يقيه ولا بحر

ولا شك في أنه كان يرى الفرار أمام الأعداء أشد من الموت وعاراً كبيراً لا يمكن قبوله، ونجد ذلك في قوله ([62]):

ولما لم أجد إلا فراراً

أشدَّ من المنية أو حِماما

حملتُ على ورود الموت نفسي

وقلت لعصبتي موتوا كراما

وعذْتُ بصارم ويد وقلب

حماني أن أُلام وأن أُضاما

وهكذا ظفر أبو فراس بالموت، عانقه عناق الحبيب لحبيبه، بعدما ظل يطلبه طوال عمره، ومنذ يفاعته، طلباً حثيثاً، تدفعه إليه قوة كامنة عميقة كاسرة لا تقهر، ولا تعرف كللاً ولا مللاً، حتى ظفر بالموت ظفراً مشرفاً شجاعاً ـ كما كان يريد ـ بضربة سيف أعجمي جبان غادر، بيد أن هذه القوة الهادرة القاهرة التي كانت تكمن في صبغياته، وتندفع من قلبه الشجاع وروحه الأبية كالحصان الأدهم الجموح في صبغياته، قد لقيت التشجيع كله من قناعته التي لم تعرف التردد، وإرادته التي لم تعرف إلا القوة، فاجتمع ذلك كله، ودفعه بشجاعة نادرة إلى حياض الموت وعشق المثل الأعلى وخلود الذكر وسيرورة الاسم والأخبار والأشعار عبر القرون، تتناقلها الأجيال العربية سيرة خالدة ومثالاً يُحتذى جيلاً إثر جيل.

المصادر والمراجع

ـ إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، محمد راغب الطباخ، تصحيح محمد كمال، دار القلم، حلب 1988.

ـ ديوان أبي فارس الحمداني، دار صادر، بيروت 1990.

ـ ديوان الهذليين، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1965.

ـ زبدة الحلب، ابن العديم، ت: سهيل زكار، دار الكتاب العربي، دمشق 1997.

ـ شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، ابن الأنباري، ت عبد السلام هارون، القاهرة 1963.

ـ العصر الإسلامي، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1963.

ـ العصر الجاهلي، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1965.

ـ عصر الدول والإمارات (مصر والشام)، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1984.

ـ لا تقتل نفسك، بيتر شتاينكرون، ت: نظمي راشد، دار الهلال، القاهرة، بلا تاريخ.

ـ وفيات الأعيان، ابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1969.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير