تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واللافت للنظر في فخره خاصة، وفي شعره عامة، ذلك الإلحاح الشديد على الموت، وما يؤدي إليه. ولعل هذا يدل ـ فيما يدل ـ على قوة غريزة الموت الكامنة في لا شعوره وأعماقه وطغيانها. وربَّ معترض يقول: إن كثيراً من الشعراء ذكروا الموت. فنقول: المقصود هو كثرة ذكر الموت، لا ذكره فقط، تلك الكثرة التي زادت عن الخمسين مرة في ديوانه الذي لا يعد كبيراً إذا ما قيس بغيره من دواوين أمثاله، هي التي مازت الشاعر عن سواه. وإذا وجدنا ـ ولا بد أننا واجدون ـ شعراء آخرين أكثروا من ذكر الموت، فما الذي يمنع من أن يكونوا كأبي فراس في طغيان غريزة الموت لديهم وعنفوانها، وأن يسبق حصانها الأسود حصان الحياة الأبيض عندهم، كما سبقها لدى أبي فراس.

كل ذلك دفعه إلى أن يموت ميتة الرجال الكاملي الرجولة الأبطال، فقال ([39]):

فإنْ عشنا ذخرناها لأُخرى

وإن متنا فموتات الرجال

ولا بد من أن نتوقف عند هذا البيت ملياً، وبخاصة عند شطره الأول الذي يؤكد ما ذهبنا إليه من أن غايته قد كانت الموت، وليست النجاة التي لا تعدو أن تكون ذخراً ووسيلة توصله إلى موت قادم قريب وسريع.

ولم يناقض فعلُ أبي فراس قولَه، فقد خاض الحروب بشجاعة نادرة، بلا ترس ولا درع، ليس معه سوى سيفه ويده وقلبه، قال ([40]):

حملتُ على ورود الموت نفسي

وقلت لعصبتي موتوا كراما

وعذْتُ بصارم ويد وقلب

حماني أن أُلام وأن أُضاما

ولم أبذل لخوفهمُ مِجّناً

ولم ألبس حذار الموت لاما

كما وجد أيضاً في بذل النفس جوداً يفوق الجود بالمال، وشتان ما بينهما، قال ([41]):

وندعو كريماً من يجود بماله

ومن يبذل النفس الكريمة أكرمُ

لذلك اتخذ الحرب طعاماً له وشراباً باع في سبيلها صباه، قال ([42]):

فلا تصفنَّ الحرب عندي فإنها

طعاميَ مذْ بعت الصبا وشرابي

ولم يجد في الموت شراباً فقط، وإنما وجده شراباً عذباً سائغاً لذة للشاربين ([43]):

قد عذب الموت بأفواهنا

والموت خير من مقام الذليلِ

كما كان يرى الموت يملأ ما بين المشرقين أمامه، ويرى المعايب خلفه، وهي أصعب عنده من الموت، لذلك خاضه غير هيّاب ولا وجل، قال ([44]):

أرى ملء عينيَّ الردى فأخوضه

إذا الموت قدامي وخلفي المعايبُ

ولم يكتف أبو فراس بذلك، بل نجده قد حل في السيف، أو حل السيف فيه، وأصبحا معاً كياناً واحداً، يذكرنا، لولا صرامته وشدته، بنظرية الحلول عند المتصوفة، ولا شك في أن لهذا دلالاته فيما ذهبنا إليه، قال ([45]):

يا ضاربَ الجيش بي في وسْط مفرقه

لقد ضربت بعين الصارم العَضُبِ

كما نجده قد توحد أيضاً مع الترس فضلاً عن توحده مع السيف ومع قومه، قال ([46]):

وإن حاربوا كنتُ المجنَّ أمامهم

وإن ضاربوا كنت المهند واليدا

وإنه لم يكن يرضى بهزيمة أعدائه، وإنما أوجب على نفسه أن يجعلهم بين قتيل أو أسير، قال ([47]):

فبين قتيل بالدماء مضّرجٍ

وبين أسير في الحديد مكّبلِ

هذه الشجاعة الباسلة والاندفاع الشديد نحو الموت المرةَ تلو المرة جعلت قومه يلومونه على ذلك، ولكنه لم يسمع كلامهم، قال ([48]):

أُلامُ على التعرّض للمنايا

ولي سمعٌ أصمُّ عن الملام

ولعل الذي شجع أبا فراس على ذلك أنه أدرك أن الموت ذو سطوة لا تُرد، وميعاد لا يُخلف، لا ينفع معه حرص ولا حيلة، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، كما قال الله تعالى، قال ([49])::

وإذا المنية أقبلت لم يثْنها

حرص الحريص وحيلةُ المحتالِ ([50])

وأنه نهاية كل حي، يتساوى لديه الأحياء جميعاً، قال ([51]):

بنو الدنيا إذا ماتوا سواءٌ

ولو عَمَرَ المعَّمرُ ألف عام

كما أنه (أي الموت) أيضاً لا يفارق الإنسان أبداً، قال ([52]):

فمؤجَّلٌ يلقى الردى في أهله

ومعجَّلٌ يلقى الردى في نفسهِ

إن أبا فراس كان يرى الموت قتلاً النهاية الحتمية الوحيدة التي لا مفر منها له ولجميع الكرام الصيد أمثاله، قال ([53]):

ولئن قُتلتُ فإنما

موت الكرام الصيد قتلا

وأنّ له أجلاً مسمى لا يتقدم ولا يتأخر، قال ([54]):

فإنْ أهلَكْ فعنْ أجلٍ مسمّى

سيأتيني ولو ما بينكنّهْ

ويعتقد أن الإنسان إذا لم يستطع الخلود جسداً، فإنه يستطيعه ذكراً خالداً يخلده بعد موته إلى أبد الآبدين بطولة وكرماً ومروءة ونبلاً ومثلاً، قال ([55]):

هو الموت فاختر ما علا لك ذكرهُ

فلم يمت الإنسان ما حيي الذكرُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير