تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تتمثل هذه الصور في مآخذ بعض النقاد والادباء على الشعراء، أو مآخذ الشعراء على بعضهم بعضاً، وقد لَمَستْ هذه المآخذ جوانب مختلفة من الشعر، جوانب تكشف عن اختلاف ذوق النقاد وهواهم، كما تدل على اتساع مجال النقد وتطوره، وأكثر من حظي بهذه المآخذ هو عمر ابن أبي ربيعة، فمن النقاد مَن عاب عليه أسلوبه الإباحي، ومنهم عبدُ الله بن الزبير وأبو المقوم الأنصاري، وهشام بن عروة، فجميعهم ادركوا خطورة شعره على أخلاق الفتيات. ومن الأمور الأخرى التي أخذها عليه النقاد، وبخاصة صاحبه بن أبي عتيق هو نسيبه بنفسه، فقد أخذ عليه أنه يحبّ نفسه ويتغزل بها! وتبعه في هذا كثيّر عزة، وبثينة صاحبة جميل.

ومما التفت إليه النقاد في هذا العصر أيضاً عدم الجمع بين الشيء وما يناسبه من نوعه، أو ما لا يلائمه من ي وجه من الوجوه، وهو ما يسمى "مراعاة النظير"، و من هذا ما أنشده الكميت بن زيد في حضرة نُصَيب:

وقَد رأينا بها حُوراً مُنَعَّمةً بِيضاً تَكامَلَ فيها الدَّلُ والشَّنَبُ

فعاب عليه نُصيب قوله: " تَكامَلَ فيها الدَّلُ والشَّنَبُ" إذ استقبح هذا القول.

والتفت النقاد أيضاً إلى الشعر الوَسَط، أي الشعر الذي لا يبلغ غاية صاحبه ولكن يقع قريباً منها، فلا تقول له اخطأت أو أصبت، ومن ذلك ما أنشده الكميت في حضرة ذي الرمة:

هل أنتَ عن طلبِ الأيْفاعِ مُنقَلِبُ

أم كيفَ يَحسُنُ مِن ذي الشَّيبةِ اللَّعِبُ؟

فقال ذو الرمة: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدرُ إنسانٌ أن يقولَ لكَ أصبتَ ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به ولا تقع بعيداً عنه، بل تقع قريباً.

وفي هذه المرحلة أيضاً بدأ الحديث يدور حول السرقات الشعرية، ومن ذلك أن لقي الفرزدق كثيّراً بقارعة البلاط، فقال له: يا أبا صخر، أنتَ انسبُ العرب حين تقول:

أريدُ لأنسى ذكرها فَكَأنّما تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ

يُعرّض له بسرقته من جميل بثينة، فقال له كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول:

ترى الناسَ إذا ما سِرنا يسيرون خلفنا وإن نَحنث امأنا إلى الناسِ وَقَّفوا

وهذا البيت أيضاً سرقه الفرزدق من جميل، وفي هذا دليل على انتباههم للسرقات منذ عهد مبكّر.

عرض النقاد في ذلك العصر كذلك لصفات الألفاظ، فعابوا من الشاعر أن يتراوح أسلوبه بين جزالة البدو ورقّة الحَضَر في التعبير عن المعنى الواحد، ومن ذلك ما ذكره الهيثم بن عدي أن قال له صالح بن حسان: هل تعرف بيتاً نصفهُ أعرابيّ في شَملة، وآخره مُخَنّثٌ من مخنثي العقيق؟ فقال الهيثم: لا أدري، قال: قد أجّلتكَ فيه حولاً، فقال الهيثم: لو أجلتني حولين ما علمتُ. قال: قولُ جميل: "ألا أيّها النُوّامُ ويحكم هُبّوا" هذا أعرابيفي شَملة، ثم قال: "نُسائلكم هل يُقتلُ الرجلُ المُحِبُّ؟ " كأنه والله من مخنّثي العقيق".

ومما أخذوه على الشعراء أن يقلّد بعضهم بعضاً في أسلوبه الشعري أو طريقته الفنية التي عُرِفَ بها، وذلك كتقليد جميل لعمر بن أبي ربيعة في حواره القصصي. وقد جاء في الأغاني أن عمر بن أبي ربيعة حين أنشد بثينة وقالت له: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهنّ الوجد بك، قال لها قولَ جميل:

وهما قالتا لو أنّ جميلاً عَرَضَ اليومَ نظرةً فَرآنا

بينما ذاك منهما وإذا بِي أعملُ النَّصَّ سَيْرةً زَفيانا

نظرت نحو تِربِها ثم قالت قد أتانا – وما علمنا- مُنانا

فقالت: إنّه استملى منكَ فما أفلح، وقد قيل: اربِط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلم من جَريه تعلّمَ مِن خُلُقِه" وهي بهذا تشير إلى تأثر جميل بطريقة عمر في الحوار القصصي وعجزه عن بلوغ مستواه في ذلك.

هذا هو عصر ابن أبي عتيق الذي عاش فيه، وتأثر بأحداثه وانفعل، وقد اشتهر بالفضل والنسك، والصلاح والعفاف، كما عرف بالظرف والدعابة والفكاهة، والميل إلى اللهو والمزاح والغزل، وإلى جانب ذلك فقد كان مولعاً بالغناء، محباً للأدب والشعر، ناقداً له، فسعى إليه معاصروه ينشدوه أشعارهم فينقدها بعين الحاذق البصير بما فيها من مواطن القوة والعف.

ابن أبي عتيق الناقد:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير