أما قولُ (ينبغي للمسلم ألا يعصيَ ربه) فلم أجده شائعًا في كلامِ البلغاء المتقدِّمينَ. ومما وردَ منه قولُ ابن المقفع في (كليلة ودمنة): (ينبغي للعاقلِ ألا يغفُل عن التماس ما في نفسِ أهله وولده).
وتوجيه ذلك كتوجيه: (ينبغي) بالإثباتِ، في كونِه كنايةً عن النهيِ.
- الموضع الثاني:
يقولون: (الغِواية) بكسر الغينِ. والصوابُ: (الغَواية) بالفتحِ؛ قالَ الفيروزبادي في قاموسِه: ( ... وغَوايةً، ولا يُكسَرُ)؛ قالَ امرؤ القيسِ في معلَّقتِه:
فقالت: يمين الله، ما لك حيلةٌ ** وما إن أرى عنك الغَوايةَ تنجلي
- الموضع الثالث:
زعمَ بعضُهم أنَّ كلمةَ (رئيسيٍّ) التي يستعملُها الناسُ وصفًا وأمثالَها من المشتقاتِ المنسوبِ إليها في اصطلاحِ النحوِ، صوابٌ؛ وذلك كقولِهم: (شارعٌ رئيسيُّ)؛ بل من طريفِ ما بلغني أن بعضَ أدعياءِ العربيةِ احتجَّ لذلكَ بأن (رئيسًا) ليست محضةً في الوصفيةِ من حيثِ إِنهم يطلقونَها على (رأسِ القومِ). وصدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذ قالَ: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رءوسًا جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا) [متفقٌ عليه]. إن هذا لجهلٌ وضلالٌ عن القصدِ، وليٌّ لعنقِ العربيةِ إلى ما يشتهي العامَّة ويدَّعون؛ فما لهولاء القومِ – لا لعًا لهم – يُرضُون الناسَ بسخطِ العربيةِ!
ومَزعمُهم هذا مردودٌ بأنَّ غلبةَ المفهومِ على بعضِ أفرادِه لا يعني استحواذَه عليه كلِّه؛ فعلى هذا إذا كانَ (الرئيس) غلبَ على (رأسِ القومِ) فلكَ أمرانِ؛
الأولُ: أن تنسبَ إلى الغالبِ على المفهومِ، كنسبتِك إلى رأسِ القومِ.
الثاني: أن تنسِبَ إلى المعنى غيرَ غالبٍ على شيءٍ، كنسبتِك إلى (رئيس) تريدُ رأسَ كلِّ شيءٍِ؛ فأما الوجه الثاني فيأتي بيانُ خطئِه. فلا يبقَى إلا الوجه الأول، كما هو معلومٌ من طريقِ النظرِ في البواقي، أو طريقِ السبرِ والتقسيمِ؛ فإذا نسبتَ إلى (رأسِ القومِ) أحلتَ المعنى، وصرفتَه عن وجهِه؛ فكيفَ يصِح في نحو (الصفحةِ الرئيسيةِ) أن تُنسَبَ إلى (رأسِ القومِ)، مع ما هو معلومٌ من أن النسبةَ كالإضافةِ تُلصِقَ موصوفَها بما لحِقته. فيلزمُ هذا المدعي وقد ادعى الغلبةَ، واحتجّ بها أحدُ أمرينِ؛ أما أن ينسبَ إلى (رأسِ القومِ) وهو فاسدٌ؛ إذ (الصفحةُ) هي ذاتُ الرئاسةِ، بكونِها رأسَ الصفحاتِ، لا منسوبةٌ إلى رأسِ القومِ، وإما أن ينسبَ إلى موصوفِ (رئيسي) غيرِ المعلومِ؛ فيكونُ رجعَ عن قولِه، وصارَ إلى الخِيار الثاني. ويأتي – إن شاء الله - بيانُ فسادِه.
---
والقولُ الفصلُ في هذه الكلمةِ أنه يجوزُ بتصفُّحِ من حيث الاحتمالُ لا الإمكانُ أن تُحملَ على أربعةِ أوجهٍ:
الأول: أن تكونَ الياءُ ياءَ النسبِ الحقيقية، أفادت معنى المبالغةِ. وهو قولُ ابنِ مالكٍ في الجملة، وقولُ الرضيِّ. ومما أذكرُ من نظائرِ ذلك قولهم (أعجم وأعجميّ)، و (أحمر وأحمري)، و قولُ العجاجِ في قصيدته المشهورة التي مطلعُها:
أطربًا وأنت قِنَّسريُّ
قال:
والدهرُ بالإنسانِ دوَّاريُّ
وهو وجهٌ مردودٌ بأنَّ ياءَ النسبِ تُلصِق مدخولَها بموصوفِها؛ وإذا كانَ كذلك لم يصحَّ أن تفيدَ معنى المبالغةِ، لأنَّ المنسوبَ أدنى درجةً من المنسوبِ إليه؛ فكانَ الوجهَ أن تفيدَ خلافَ ذلك. وبيانُ ذلك أنك إذا قلتَ: (أمرٌ رئيسيّ) لم تصفه بأنه (رئيس) أي: موصوفٌ بالرئاسةِ؛ ولكنك جعلتَه منسوبًا إلى الرئيسِ. وليس هذا المرادَ، ولا يصِح به المعنى. فإن قلتَ: فما بالنا نقولُ: شيء أساسيّ. ولا نقول: رئيسي. قلتُ: ذلك بأنّ (أساسًا) اسمُ ذاتٍ، فيُنسب إليه كما يُنسبِ إلى كل اسم دالٍّ على ذاتٍ. أما (رئيس) فصيغة مبالغةٍ من (رأسَ). ويجوزُ عندي أن يَّكونَ صفةً مشبهةً من (رؤُس) المقدَّر، وإن لم يُسمَعْ؛ إذ الرئاسةُ من المعاني الثابتةِ، كـ (عظُم) فهو (عظيم)؛ قالَ ابنُ جنيْ في الخصائصِ: (ولا يُستنكَر الاعتدادُ بما لم يَخرج من اللفظِ، لأن الدليلَ إذا قامَ على شيء كانَ في حكم الملفوظ به؛ وإن لم يجرِ على ألسنتِهم
¥