تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد مشرف اشرف]ــــــــ[05 - 12 - 2009, 07:54 ص]ـ

الفكرة

"الإنسان جماد" هذه كلمة، وردت على ألسنة بعض الفلاسفة، فإنهم يرون أن تصور الإنسان جمادا سائغ لا حرج فيه، و حملهم على القول بها أنهم يذهبون مذهب أن الأشياء ? حقيقة لها و أن ما ننسب إليها مما نسميه بالحقائق فما هو إلا "فكرنا" ...

فالجدار عندهم صلب؛ لأنا نطنه صلبا.

و الماء سائل؛ لما نراه سائلا.

والنار حارقة؛ لأنا نصفها في تحيلاتنا بالتحريق.

وقالوا ما قولوا مما يرونه حقا.

لعلك - يا قارئي الكريم - تبادر إلى ذهنك بهذا التمهيد أنك ستشاهد في السطور الآتية اندلاع جدل فلسفي، يثبت وجهد نظرة و يفند أخرى و هذا المتبادر الذهني أمر طبيعي بالنسبة إلى هذا التمهيد، و لكن ليس الأمر كذلك، و إنما تجدني أحاول أن أتناول بالبحث ظاهرة إنسانية نفسية، و جهت إليها زمام فكري محاضرة عالم باكستاني ألقاها قبل أيام قليلة في مسجد على كثب من منزلي، و كأن تلك المحاضرة كانت غذاء فكريا ? يزال يغذيني حتى الآن و ينمي عضلات فكري كما ينبغي ... ربما

إن السارق إذا ينوي السرقة و يخطط لها في ذهنه قبل أن "يفعل" فكرة السرقة هذه، فكأنه سرق و لو في ذهنه و إنما السرقة المجسدة ظل هذه السرقة الفكرية، لذا نجد أن الشرع لم يقتصر على الأحكام الظاهرية بل كلف العبد قلبا و فكرا، فقال النبي - صلى الله عليه و سلم -:

"الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"

فأوصى - صلى الله عليه و سلم - أمته من خلال هذا التشبيه باجتناب الحسد الذي هو وليد الفكر الإنساني، و إذا اشتعلت شرارة الحسد في فؤاد المرء لأخيه، ظل يتمنى أن يسلب منه ما أنعم به الله عليه، فكلما رآه مسرورا، ثار ثائره و فار فائره غضبا، و إذا بلغه إذاه، طار فرحا، و هذه الفكرة الملتهبة بلهب الحسد المتأججة في قلبه المتطاير شررها من جوارها القاذف كلماته رمادها فإنها في كثير من الأحيان ? يخمدها إ? أن يغتال أخاه المحسود بإلقاءه في غابات الجب و طرحه في أرض مقفرة،

و كذلك حال سوء الظن، فقال الله تعالى:

"إياك و سوء الطن"

فالمرء إذا يسيء الظن إلى أخيه، يشيد في ذهنه قصرا بلا أساس للظنون و التخيلات مما ربما لم يخطر ببال أخيه و يضع على عينيه نظارة سميكة لإساءة الظن ...

... و لكن إذا اكتشف عليه الحقيقة من دون أن يتحسسها، انهار القصر المشيد فجأة و سقطت نظارة إساءة الظن، هنالك يخجل على ما كان يتصور في أخيه

و هذا كله تمخض عن الفكرة السيئة

كما أن الفكرة السلبية لها تداعيات سلبية، فإن الفكرة الحسنة المثبتة لها آثار سنية و إن ظهرت بعد ردح من الدهر، كفانا في هذا المقام قصة رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوية إلى الطائف و ما عاناه من جفاء أهله و اعتداءاتهم و عدم مروءتهم و انتهاك حقوق الضيف، و ? ينتهي الحديث هنا و إنما أقاموا له أولادا أشرارا بالسماطين، فرجموه بالحجارة حتى أدموه، فهرول رسول الله - صلى الله عليه و سلم - تخلصا منهم، و لو كانت للأحجار أعين، لذرفت على هذا المشهد، و لكن أعين هؤلاء الجفاة كانت أشد من الحجارة قسوة، فأرسل الله إليك ملك الجبال و عرض عليه - صلوات الله عليه و السلام - أن يطبق على هؤلاء القوم أخشبي مكة إن شاء، فكان بإمكانه أن يثأر منهم و لو فعل لما ظلم، و لكن النبي العطوف الثاقب الفكر لم ينتهز هذه الفرصة بل يبدو متفائلا بهم، فانعكس هذا الفكر الثاقب المتفائل على لسانه و قال: "? بل أستأني بهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده و ? يشرك به شيئا" ...

ثم أتى فكر النبي - صلى الله عليه و سلم - الإيجابي الثاقب أكله حيث كان محمد بن قاسم الذي بيده فتح الله السند للمسلمين هو من أصلابهم.

و إن تصفحنا أوراق من اعتنوا بتزكية قلوبهم أشد الاعتناء، وجدنا كثيرا من وقائع هذا النوع التي أدي فيها الفكر المثبت دورا لم يك يلبعه أصحاب الأجسام القوية الذين ? يمتلكون مثل هذا الفكر و لو كانوا فطينين.

فالفكر الإنساني جعل الله فيه تأثيرا قويا، فإن كان اتجاهه نحو سمت صحيح أثر في هذا الكون، أثرا مثبتا حيويا و تنفتح في أرجاءه رحايين الحب و الفرحة و الطمانينة و تبذل أزهار البغض و الحقد و التعلي و حب الظهور و تفوح رائحة الأمن و الاحترام المتبادل و الثقة بالنفس و يفيض بحر العلم و الاكتشاف و الابتكار و تشرق شمس الحيوة الدافئة التي تدور حول العالم كله من دون أن يأتيها الأفول و يهرب ظلام الحرب البارد مدبرا و يبزغ قمر السبات الهادئ الذي ? يهجم عليه المحاق.

و إن كان فيه اعوجاج، فلا طائل تحت مؤتمرات و ندوات تعقد على ظهر أراض مختلفة متباعدة تارة و متقاربة أخرى لدراسة سبل مكافحة مشاكل هذا الدنيا التي تتسارع يوما فيوما إلى عقبة الانقراض و بستان الأدب الذي تهب منه ريح الحب و الحيوة و النفتاح ثم تتوزع في العالم فإنه تنبعث منه عفونه التعصب و النفرة ثم تلوث أجواء أفكار الجماهير و يدوي بدوي الحمية حمية جاهلية.

أيها القارئ، أرجع إلى بداية مقالتي حيث ذكرت قولا لبعض الفلاسفة، و ? تظن أن أوافقهم بل و إنا قائل بأنه الله - عز و جل - جعل في كل شيء حقيقته و هي ? تختلف باختلاف المشاهدين، و إنما ذكرته لأعرض عليك مدى إحساس بعض منا بأهمية الفكر حتى إنهم بالغوا في ذلك و وضعوه غير موضعه.

اللهم أرنا الحق حقا و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير