لم أكن أعبأ بصحتي بقدر ما كنت أريد أن أكحل عيني برؤيته ..
وما إن عدت إلى البيت حتى تذكرت الورقة التي أخذتها من الطبيب ... فتحت حقيبتي ... وكانت كما كانت ملفوفة بدقة وعناية ... وإذ بالدهشة تأخذ بي كل مأخذ ..
" زوجتي الغالية ... إن الدنيا لا تبقى مبتسمة دائما ... وإن الطريق إلى الجنة شائك ... ارحلي إلى وطنك وحققي أمنية كانت مسجونة في صدري مذ قرأت الصحيفة ... احملي معك هم دينك وعقيدتك ... وسيري بخطى ثابتة واثقة .. والله يحفظك"
شعور غريب اجتاحني ... مسحت ما نزف من عيني التي ابيضت من شدة الحزن أو كادت ... تزاحمت في رأسي مئات الأسئلة .. كيف السبيل إلى وطني؟ .. كيف السبيل إلى نشر ديني وسط أسود التنصير هناك؟! ..
وتمضي أيام العدة بأمر من مرارة الحنظل , ويتقدم لخطبتي ذاك الطبيب الذي سلمني وصية زوجي الراحل ..
رفضت في بداية الأمر .. ثم بعد عدة أشهر عاد مجدداً طلبه ورضخت آملةً في وجود رجل يحميني من عقارب الحياة القارصة.!
ولم يمضِ على زواجنا إلا خمسة أشهر حتى صارحني بقوله:
-لي طموح نشدته من زواجي بكِ ... وأجزم أنك ستوافقيني بشدة.
ابتسمت وقلت:
- ما هو؟!
- سأحقق وصية زوجك وسنرحل معاً ..
وبنظرة مريبة قلت له:
-وكيف علمت بذلك؟!
- لا تلوميني ... زوجك " سعيد" هو من أملاني الوصية .. !
لامس هذا الاسم الغض أذني العطشى ... أخذ شريط الذكريات يعرض أمامي كأشرطة السينما التي تصطدم دائماً بصخور الأحلام القاسية ...
ولم أنتبه إلى نفسي إلا وأنا أردد:
(سعيد ... سعيد .. )!
وإذ بزوجي يقوم كما لو كانت لسعته عقرب وهو ينظر إليَّ بنظرة معاتبٍ ومشفق ... فطنت حينها أن الغيرة لا تجتاح النساء فقط بل الرجال أيضاً ..
وفي صباح اليوم الأول من شهر حزيران كنا قد وطئنا مطار مدينتي ..
الكل كان ينظر إليَّ بحقد وغضب ... منظري كان ملفتاً وسط القادمات من فرنسا ... كنت متلفعة بحجاب من رأسي حتى أخمص قدمي مما زاد نفور الأمن وازدرائهم ..
أخذت أنا وزوجي نتقدم شيئاً فشيئاً مع تقدم القادمين لإنهاء الإجراءات اللازمة للخروج من صالة المطار ... وبدون سابق إنذار سمعت دوي اسمي يدوي في الصالة بأكملها ... شخص ذا عينين جاحظتين وفم غليظ وجسم جث يوحي بشدة وغلظة ...
وبخطوات خلتها والله خطوات سجاَّن ... وبنبرة عسكرية قال:
- أ أنت " شهيرة يونس"؟!
- نعم ..
مدَّ يده إلي وقال:
- جواز سفرك .. !
- تفضل .. !
- انتظري هنا قليلاً ..
وأشار إلى مقاعد الانتظار ... كانت علامات الدهشة تعتري زوجي ... ثم أردف قائلاً باستنكار:
- لماذا يأخذونه؟!
قلت وأنا أشير إلى نقابي ..
- بسبب هذا؟!
- ماذا؟!
- نعم .. هنا ... من يرتديه يصبح مجرماً!
وبعد غضون ثلاث ساعات .. دوى الدوي من جديد منادياً باسمي ... وحضر ذاك الرجل ممسكاً بجوازي وقال وهو يتظاهر كأنه لم يسألني من قبل ..
- أ أنت شهيرة يونس؟
- نعم .. !
- نحتاجك لبضع دقائق في تحقيقات سريعة .. !
أودعت حقيبتي عند زوجي ورجوته أن يسأل الله الثبات ..
وفي غرفة التحقيقات جلست وأنا رافعة رأسي لأعلى ... شامخة بإسلامي وبحجابي ..
وإذ بصوت رجولي يبدو عليه علامات اللامبالاة .. وقد حلق حولي أربعة من رجال الآمن .. وقال:
- أنت شهيرة يونس أليس كذلك؟!
- بلى .. !
- لماذا أتيت إلى هنا بعد غياب ثلاثين عاما؟!
- لأنه وطني ليس إلا .. !
- أتعلمين أن لباسك هذا ممنوع بقانون حكومي!
- أنا ألبسه لراحة أجدها في نفسي ...
- لكنه ممنوع!
- أو تأمرون الرجل أن يلبس ثوباً ولا يلبس بنطالاً؟!
- لا .. !
- إذن لمَ تمنعون المرأة من لبس ما تريد وأنتم تدعون الديمقراطية؟!
- هو قانون ليس إلا ... نحن نسعى لتطبيقه ..
ثم أردف وهو يخط باسمي في سجل خاص بهم ..
- عموماً نحن سنضع اسمك لدينا احتياطا .. أي مخالفة تخالف الأنظمة نستطيع إحضارك في أي وقت .. !
ابتسمت بخبث من تحت نقابي وأنا أقول:
- اطمئن ..
ثم أشار لي أن أوقع على التحقيق ... سلمني جوازي وخرجت وقد زدت عزة وتمكيناً.
قابلني زوجي وهو متلهف لسماع ما حدث ... أشرت إليه أن ننهي إجراءاتنا وفي الفندق سأحكي ما جرى .. !
وما إن فُتحت بوابة المغادرة من صالة المطار إلا ونسيم الوطن الغائب يحتضنني .. يؤازرني .. يربت على كتفي ويقول:
هلمي إلى نجدتي ... فالجنة لا تنال بأثمان بخسة ... ولا بهمم كالهباء.!
*
أسماء السقيلي
11/ 5/1426هـ
ـ[صالح بن سعد بن حسن المطوي]ــــــــ[26 - 07 - 2005, 02:28 م]ـ
أقف هنا
وكلي إكبار و إجلال و تقدير
لأختنا في
الله سبحانه له الحمد
أسماء السقيلي
و موعدنا معها في الجنة
حيث تكون تحيتنا فيها
سلاما
‘ن شاء الله
ـ[سامح]ــــــــ[29 - 07 - 2005, 08:31 م]ـ
أسماء ..
تظافر لديك الجمال هنا ..
الخلق الأسلوبي حين تبث فيه روح سمية لمعنى نبيل
تشويق وجذب وحوار
جذبتيني منذ البداية ولم أقف ..
النثر هنا لايأتي إلا ومضاً
لكنه مذهل ..
شكراً لتألقك
رغم أن المعتنين بالفنية قد لايعجبهم النص إذ اللغة
فيه لغة سردية تشابه لغة نجيب محفوظ أو محمود عبد الحليم
تختلف الأذواق يبقى أن يصل مانريد إلى الآخر بأي صورة
تقديري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
¥