تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأرض كسف كان، وإن كنا نرى الأرض مدحية على الماء فإن الماء فوقها، وكذلك كرة الهواء محيطة بكرة الماء وهي فوقها، وإذا كان الأمر كذلك فالسماء التي تحت النصف الأسفل من كرة الأرض هي فوقه لا تحته؛ لأن السماء على الأرض كيف كانت، فعلوها على الأرض بالذات فقط لا تكون تحت الأرض بوجه من الوجوه، وإذا كان هذا جسم وهو السماء علوها على الأرض بالذات فكيف من ليس كمثله شيء، وعلوه على كل شيء بالذات، كما قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}. وقد تكرر في القرآن المجيد ذكر الفوقية: {يخافون ربهم من فوقهم}. {وإليه يصعد الكلم الطيب}. {وهو القاهر فوق عباده}. لأن فوقيته سبحانه وعلوه على كل شيء ذاتي له، فهو العلي بالذات، والعلو صفته اللائقة به، كما أن السفول، والرسوب، والانحطاط ذاتي للأكوان عن رتبة ربوبيته، وعظمته، وعلوه، والعلو والسفول حد بين الخالق والمخلوق، يتميز به عنه هو سبحانه عليٌّ بالذات، وهو كما كان قبل خلق الأكوان، وما سواه مستقل عنه بالذات، وهو سبحانه العلي على عرشه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج الأمر إليه فيحيي هذا، ويميت هذا، ويمرض هذا، ويشفي هذا، ويعرُّ هذا، ويُذلُّ هذا، وهو الحي القيوم القائم بنفسه، وكل شيء قائم به".

ثم قال الجويني: " فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة، ولم يعاجلها بالإنكار، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار، وتأمل النصوص في الصفات، وفكر بعقله في نزولها، وفي المعنى الذي نزلت له، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب تعالى بها، والتوجه إليه منها، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها، كما يليق بجلاله وعظمته، بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا جمود ولا وقوف، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر، وكفاية لمن استبصر إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم، والله سبحانه أعلم".

اللهم فاهد هذا العبد إلى مذهب السلف في باب الأسماء والصفات والقدر، وجنبه تحريفات المبتدعة.

قولك: " فالإمام أحمد قد تكلَّم أن لا معنى ولا كيف".

فمعنى: " لا معنى"، أي من المعاني الباطلة، كقولهم: معنى اليد القدرة، فهذا المعنى باطل، وكذا قولهم: معنى الرحمة: إرادة الإنعام، فهذا معنى باطل.

ولذا قال أحمد: " ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت"، أي كإزالة معنى الاستواء، وتحريفه إلى الاستيلاء، لشناعة القول بالجهة أو الحيز أو التجسيم. ولذا صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية قبل مجيء الأشعرية.

قولك: " وعليه يكون الصواب بأن نقول بأنَّ الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة المخلوقات ...

وأن نصدق كلامه وكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو وحي يوحى ...

وأن نذعن له ...

وأن نمسك عن توهم أنَّ الله سبحانه وتعالى مثل البشر له طول وعرض وارتفاع وأعضاء ... ".

حق أريد به باطل، فأهل السنة ينفون التشبيه والتعطيل، ويثبتون ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، وقاعدتهم العامة: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". فيثبتون البصر والسمع، ويقولون: ليس كمثله شيء"، ويثبتون الوجه واليد وغيرهما، ويقولون: ليس كمثله شيء.

كقولكم: له حياة وعلم وقدرة وإرادة لا تشبه ما عند المخلوقين، فأهل السنة يقولون: له وجه ويد لا تشبه ما عند المخلوقين، فإن قلتم: لا نعقل ذلك من المخلوق إلا مجسما أو مركبا، قلنا، خطأكم قياس الغائب على الشاهد، ويلزمكم أيضا مثل هذا في الحياة والقدرة والعلم، فنحن لا نعقلها إلا لذي جسم متحيز.

قولك: " وأن نمسك عن توهم أنَّ الله سبحانه وتعالى مثل البشر له طول وعرض وارتفاع وأعضاء".

وهل قال أحد من أهل السنة لله أعضاء، فرق بين قولنا لله وجه ويد، ولله أعضاء، فالثاني من جعبتكم، والأول ثبت بالقرآن والسنة.

وأما نقلك عن الطحاوي فهل نصدقك في تفسير كلامه أو نصدق السني الحنفي ابن أبي العز، الذي بين وجه هذا الكلام، والطحاوي يتبرأ من أمثالكم، وكذا أبو حنيفة يتبرأ من أمثالكم، وقد نقلنا من الفقه الأكبر ما يدل على ذلك، وهو قول أبي حنيفة: " قال أبو حنيفة: " من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، فقد كفر، وكذا من قال: إنه على العرش، ولا أدري: العرش في السماء أو في الأرض"، وقد بينت أن هذا الكلام في رواية حماد وليست أبي مطيع؛ لأن المطبوع باسم"الفقه الأكبر" هو في الواقع الفقه الأبسط، والمذكور في الفقه الأكبر برواية حماد.

وقوله: " لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات هو كقول ابن تيمية الذي اعترضته علينا: " من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب، إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن واحد".فهذا ابن تيمية يوافق عقيدة السلف.

وقوله: " محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه".

فهي صريحة في إثبات الفوقية، ولذا أدعيت دعوى الله أعلم بها، وهي كذب في نظري، ولا غرابة، فقد أثبتنا كذبك في مواطن، وهذه الدعوى، هي قولك: " وفي نسخة: وما فوقه". والصواب هو المثبت في المطبوع، ويدل على ذلك قول الطحاوي:: " والمعراج حق وقد أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى: [ما كذب الفؤاد ما رأى] ".

فانظر قوله: " ثم إلى حيث شاء الله من العلا"، وهل لها تحريف آخر عندك؟، فربما تدعي أن العلا بمعنى القهر، تعالى الله عن قولكم علوا كبيرا.

هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.

قيده: عنقود الزواهر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير