تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن هندسة العنوان بشكل عام في حقيقة الأمر ليست ثابتة وليست مستقرة على حال، ولا تنبني على هيكلة واحدة، ولا تأخذ إطارا معينا يوحده .. ولا يمكن بأي حال من الأحوال رصدها في شكل واحد راسخ العلامة، أو حتى في أشكال محددة اللهم إلا على المستوى التجريدي بالاعتماد على بعض علوم اللسانيات ..

إن هندسة العنوان تتجلى حسب الرؤية الجمالية والصيغة الهندسية والتركيبة التقنية والطريقة الفنية التي يرغب في الوصول إليها كل من المرسل - على اعتبار أنه هو المهندس الأساس والأول بشكل مباشر- من خلال وضعه أو صياغته لكل مكونات الغلاف دون تأثير الآخر أي دون حدوث بصمات مؤثر خارج الذات المبدعة في هذه الهندسة، وهذا لا يتم إلا في حالات ناذرة أن يقوم المرسل المبدع بكل ما يتعلق بالعنوان وما حوله .. هذا من جهة ومن جهة ثانية يمكن أن تتم عملية هندسة العنوان بتواطئ المرسل الأساس مع غيره ممن له الكفاءة على أن يساهم في ذلك كالخطاط والرسام والمخرج ومستلزمات الطباعة، وهذا هو الغالب والمشهور .. وكذلك –وهذا هو الأهم - بتواطئه مع غائب حاضر بالضرورة، يدفع بكل ثقله كي تكون هندسة العنوان في مستوى التطلعات وفي مستوى التعبير عن جمالية البناء داخليا وخارجيا .. أي أن العنوان تتم هندسته من خلال تمريره عبر قناة رضا المرسل/ المبدع على نظر المتلقي المفترض والذي يساهم بطريقة غير مباشرة في العنونة، لأنه يجثم بكل كلكله على كل عملية إبداعية .. لأنه في الحقيقة وفي آخر المطاف هو الذي يضغط بشكل خفي – أراد من أراد وأبى من أبى - على مهندس العنوان ويمارس عليه وهو غائب جسديا حاضر فكريا أنواعا كثيرة من التأثير ..

فالمرسل يهندس العنوان ويؤثته ويجمع خيوطه انطلاقا من البناء نفسه وتحت تأثيره وهو يشيده، وتحت التأثير أو الضغط أو الحضور الذهني للمتلقي المفترض، وبذلك يحاول تحت التأثير المباشر وغير المباشر أن يحرك كل أدواته الإجرائية والمرجعية والإفهامية كي يقدم هندسة متوازنة للعنوان تكون من الناحية الفنية والجمالية مقبولة، ومن الناحية التركيبية منسجمة ومترابطة إسناديا، كما يتمتع بتوازن منطقي يساهم في تفكيك النص/النصوص وتركيبه/تركيبها من خلال استكناه بنياته/بنياتها الدلالية والرمزية مما يسهم منذ البداية بل ومنذ الوهلة الأولى في إضاءة النص/النصوص ككل ..

ما يفهم مما سبق بكل وضوح هو أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار العنوان بالمرتبة الأولى حلية تزيينية يرصع بها أعلى النص أو ينمق بها غلاف الكتاب، أو أداة ووسيلة لجذب انتباه المتلقي وكسب رغبته في الاقتناء أو على أقل تقدير التصفح .. وإن كنا في الحقيقة لا ننفي وجود مثل هذه القضية فكم من مقروء ليس له غير العنوان الخادع .. وإنما الواجب أن يعتبر العنوان بالأساس أفقا واسعا من التعبير وعالما كبيرا من الكلم، وإن قلت عباراته وألفاظه، وأن يعتبر اكتناها للدلالة، وتساوقا تكوينيا مع النص ومنجزه الجمالي والقيمي ..

لذا يمكن القول بأن الشاعر عبد الغني التميمي في هندسته للديوان عمل على جعل عتبته الأولى ترتكز على عدد من المكونات اللفظية البسيطة التي جاءت على شكل جملة اسمية تفتتح بمبتدأ نكرة وخبره المعرف شبه جملة من الجار والمجرور ويأتي المجرور منعوتا .. وتتوفر هذه التشكيلة اللفظية على مجموعة من المقومات الدلالية العميقة غير الخاضعة للزمنية .. وتتمتع بعناصر تصويرية وإيحائية تجعل المكان رمزا سيميولوجيا وليس رمزا جغرافيا أو طبوغرافيا .. وتتحلى هذه التشكيلة الاسمية بخصائص رمزية طافحة وأخرى كامنة يمكن استشفافها على المستوى النفسي والاجتماعي والثقافي والحضاري ..

إن العتبة الأولى لهذا البناء التميمي جاءت هندستها على الشكل التالي: (" (رسالة من المسجد الأقصى) ") تركيبة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، ودالة ومعبرة وحاملة لأفق شاسع، تضع المتلقي في غمرة الواقع المعاصر بأحداثه ووقائعه .. وتأخذه إلى الماضي القريب والبعيد لاستحضار أصول وجذور هذا الواقع .. كما تحرك فيه ذكريات ضاربة جذورها في التاريخ البشري عن طبيعة الأداة المشهور عملها ووظيفتها والتي هي "الرسالة"، وتثير فيه ذكريات موغلة في القدم عن طبيعة المكان في عمقه القدسي وبعده الإنساني وكينونته التاريخية ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير