تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لم تكن العوامل في عصر الخلفاء الراشدين مشجعة للشعر ليتطور وينهض، فما خلفته الفتوح الإسلامية والمغاي لا يعدو ان يكون نماذج مشاكلة للنموذج الجاهلي، ولكن قد نلتقي أحياناً ببعض الألفاظ الإسلامية، وبعض الأساليب التي تنحو منحى الأساليب القرآنية، وأحياناً نلتقي ببعض المقطوعات والقصائد التي تعالج موضوعات لم يطرقها الجاهليون من قبل كالموضوعات الدينية، من جهاد وقتال وحث للنفس على الخلق القويم.

أكثر ما يُلتمس في الحركة النقدية في عصر الخلفاء الراشدين مواقفهم من الشعر والشعراء، وآرائهم فيهم، والملاحظات النقدية الصادرة من بعض معاصريهم من صحابة وغيرهم كذلك، فلم يقتصر اهتمامهم على النقد وحده، بل شمل اللغة العربية عامة، والغيرة على صحتها وسلامتها من اللحن وخاصة فيما يخص القرآن الكريم. فالعرب عند ظهور الإسلام كانوا يعربون كلامهم على نحو ما في القرآن الكريم، إلا من خالطهم من الموالي فقد كانوا يلحنون ويخطئون في الإعراب، فكانوا يحرصون على تعليمهم.

سار الخلفاء الراشدون على نهج الرسول وسيرته في نقد الشعر، فميّزوا بين شعرٍ وآخر، وحضّوا على ما هو حسن ومفيد، وعاقبوا على الشائن الضار، وتمثّلوا بالشعر في أقوالهم ودعوا إلى روايته والاهتمام به، وكان أولهم في هذا الميدان عمر بن الخطاب رضي الله عنهن وهو الناقد الأول بحق في هذه الفترة، وقد قيل عنه: "كان من أنقدِ أهلِ زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة"، وقد كان ذا ثقافة أدبية عالية، ينشد الشعر في كل الموضوعات، يستمع ليه ويستروح به، ويقوم بتوجيه النقد وتطويره، فالشعر لديه هو الذي يحقق المتعة الأدبية، ويسكن به الغيظ، وتُطفأ به الثائرة، ويُعطى به السائل، ويَنزع إلى الفضائل بصفة عامة، وما يهدف إلى عكس ذلك فهو انتكاسة وردّةٌ إلى الجاهلية يأباها الإسلام ويقاومها.

ومن أقوال عمر المألوفة في هذا الموضوع قوله: "نِعْمَ ما تعلمتْه العربُ الأبياتُ من الشعر يقدّمها الرجل أمام حاجته"، وقوله: "خيرُ صناعات العرب أبياتٌ يُقدّمها الرجل بين يدي حاجته يستميلُ بها الكريم ويستعطف اللئيم". والشعرُ الخالد هو ما ينبعث من عاطفة قوية صادقة، ويخدم الحق والخير، وهذا الشعر عنده ممثل في شعر زهير بن أبي سلمى، فقد فضله على غيره من الشعراء بسبب جودته وإتقانه، ودعوته إلى السلام والخير، وإلى جانب زهير كاد النابغة الذبياني قد حظي بجزء من التفضيل، وإن كان الإعجاب بزهير أشد وأعظم.

دخل النقد على يد عمر طوراً جديداً لا عهد لنا به في العصر الجاهلي، فكان حكمه ادبياً مفصلاً يقضي فيه الناقد بتفضيل شاعر على آخر معللاً حكمه بالأسباب الفنية التي دعته إلى هذا، وقد اهتم عمر رضي الله عنه بالكلام البعيد عن الوحشية والغرابة، والبعد عن المعاظلة، والصور الشعرية القريبة، والعبارات الدالة على صدق التجربة، والتعبير عن القيم السليمة في المجتمع، وأن لا يقول الشاعر إلا ما يعرف، وألا يمدح الرجل إلا بما فيه، وبالتالي يعنيه "الصدق" كأصل مهم من أصول النقد.

أما بالنسبة للخلفاء الراشدين الآخرين، فقد عُرف بعضهم بالاحكام النقدية وتفضيل شاعر على آخر، ومنهم أبو بكر –رضي الله عنه- الذي قدّم النابغة على غيره من الشعراء فقال إنه أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً، ويعلل حكمه بأن النابغة يستقي معانيه من معين عذب سائغ، فتتقبلها النفوس تقبّلاً حسناً، كما أنه في معانيه بعيد العمق والغَور، وأنه يظل يُرَوّي فيما يغمض منها حتى يستخرجها استخراجاً واضحاً.

وعثمان بن عفان –رضي الله عنه- كذلك يعجب بشعر زهير لِما يتجلى فيه من الصدق، والصدق في القول هو المقياس الذي اعتمده عثمان بن عفان –رضي الله عنه- في حكمه، ويظهر في هذا جليّاً تأثره كسائر أصحابه برأي الرسول – صلى الله عليه وسلم- المستمد من تعاليم الإسلام، والذي حاولوا بمقتضاه أن يتجهوا بالشعر اتجاهاً إسلامياً، بحيث يعبر عن كل ما هو حق وصدق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير