تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[كلمات في كتابة البحوث]

ـ[أنوار]ــــــــ[25 - 11 - 2009, 03:51 ص]ـ

(1)

أكرم حمدان

هذه كلمات وقعت لي عَفْوَ الخاطر، أحببت أن أدوّنَها في هذه المقالة ليطلعَ عليها من له بكتابة البحوث والمقالات العلمية صلة، عسى أن يجدَ فيها بعضَ فائدة أو متعة، لم أصرفْ فيها همي إلى ما تتناقله بعضُ الكتب المصنفة في مناهج البحث وأساليبه، ولكني أردت إبرازَ بعض الجوانب التي أحبُّ أن يراها القارئ في بحوث الباحثين، ومقالات الكاتبين. وذلك أن كتابة البحوث الجادة الأصيلة فن لا يحسنه كل أحد، فكأيِّن من بحث نشر في مجلة من المجلات، ثم صرف القارئَ عنه ما ينبعث منه من رائحة النقل والاجترار، وكثرةُ القيل فيه والقال، أو نفرّه منه جموده وخلوه من روح البحث الهادف الرصين، أو صغره في عينه ضحالته وقلة نفعه. أما البحث الجاد الجيد فهو ينبئ عن نفسه، ويعرب عن ذاته، وتجدك مدعواً إلى قراءته، مسوقاً إلى متابعته، مأخوذاً بجمال أسلوبه وحسن عرضه.

كلمة في الأصالة

وبدأة ذي بدء، فإني أحب أن أُذكّر كاتبي البحوث والمقالات العلمية بما أطمعُ أن يكونوا به عالِمين، من أن أهم ما يجب صرف العناية إليه، والاحتفال به والحرص عليه هو الأصالة. إذ على الباحث أن يكون أصيلاً فيما يكتب، وأن يعيد النظر في كل جملة يجري بها قلمه، فإن رأى فيها إضافة وجدة وأصالة أبقاها، وإلا حذفها وخشي أن يطلع الناس عليها عنده، بعدما لاكتها الألسنة وجرت بها الأقلام.

ولأن لا يكتبَ الكاتبُ ولا ينشرَ خيرٌ له من أن يُذيعَ الغث الهزيل، وينشر ما يؤذن بجهل أو ينبئ عن غفلة، ولله در العرب إذ قالت: زاحِمْ بعَوْدٍ أو فَدَعْ، فمن كتب فقد عرض عقله على الناس، ومن ألف فقد استُهدف، ومن هنا فقد كان ابن المقفع، على شرفه وجلالة قدره، وعلو منزلته في العلم والأدب، لا يقول الشعر، فقيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه. وقد قال في ذلك الشاعر:

أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه .......... إليّ ويأبى منه ما كان مُحْكما

فيا ليتني إذ لم أُجدْ حوكَ وشيِِه ............ ولم أكُ من فرسانِه كنتُ مُفحما [1] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn1)

والأصالة أكثر ما تكون في الفكرة لا تنقدح لصاحبها إلا بعد طول معالجة للموضوع، وإنعام نظر فيه، وتقليبه على وجوهه، وقراءة كل ما تقع عليه اليد مما كتب عنه أو قيل فيه، قراءة منهجية واعية، لأن من أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، كما قال الجاحظ، فإذا ما وصل الكاتب إلى هذا الحد، ثم تجاوزه ورأى أن لديه جديداً يمكن أن يضيفه، أو طارفاً وقع له استنباطه، فثَمَّ الأصالة.

ولا يعني هذا أن على الباحث أن يخترع كلاماً، وألا يكتب إلا إذا وقع له كلامٌ لم يقله أحد من العالمين، فالأصالة أوسع من ذلك وأبعد، بل كثيراً ما تكون الأصالة في تأليف المعلومات المتناثرة وتنسيقها في أبحاث حيوية أصيلة، ومعالجات فعالة لمشكلات العصر، ومقتضيات التقدم العلمي، وثمة الكثير من القضايا التي كتب فيها كلام كثير، ودار حولها كلام أكثر، ولم يزل وجه الحق فيها خافياً، وهذه كلها بحاجة إلى من يقوم بالبحث فيها، وبيانِ وجه الحق فيما التبس منها، ونفيِ الخبث مما علق بها من الأغلاط والأوهام والمبالغات، وتمحيص ما قيل في ذلك كله، بضم الإلف منه إلى إلفه، أو النقيض إلى نقيضه، بعبارة محررة، وأدلة موثقة، وأسلوب مشرق وعرض جميل، ولا سيما في العلوم الإسلامية والإنسانيات.

ولأضربْ لكم التاريخَ مثلاً، فإنه على كثرة ما صنف فيه من كتب مطولة، ودُبّج فيه من بحوث ومقالات، يبقى فيه للباحثين مندوحة كبيرة، ومجال متسع، للتنقيح والتهذيب، والتحقيق والتدقيق، والنظر فيما تعارض فيه من روايات، أو تناقض من نقول، ومحاولة التوفيق بينها، أو ترجيح بعضها على بعض، واستبعاد ما يأباه العقل منها والنقل، ويقضي ببطلانه سياقُ التاريخ وتتابعُ الأحداث، مما انطلى بعضه على المتقدمين، وإن كانوا في كثير من ذلك معذورين، ثم الخروج بعد ذلك من سطحية الوصف إلى عمق التحليل، ومن ضبابية القصص والأساطير إلى وضوح الحقائق الواقعية والوقائع الثابتة، ومن فوضى العموميات إلى نظام الأحكام المستندة إلى الأدلة، القائمة على الحجج والبراهين.

وقُل مثل ذلك في الدراسات الأدبية واللغوية، وفي التفسير والحديث، وفي الفقه والأصول، وفي السير والتراجم والرجال. ولو تم لنا هذا لسكت كثيرون من أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين، ولاختفى الكثير من الأحكام المتسرعة، والآراء العجلى، كقولهم: "الحديث مشحون بالوضع والضعف، والنحو تعقيد وتأويلات، والبلاغة تكلف وأصباغ، والعروض قيود ودوائر تدير الرأس، والتاريخ أرستقراطي كتب للخلفاء والملوك، والجغرافيا العربية بلهاء، وأدبنا العربي غارق في الذاتية ومجالس السمر" [2] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn2)

وكقولهم أيضاً: الفقه الإسلامي فقه الغالب، ولا يصلح لهذا العصر، لأنه كتب في زمن غلبة المسلمين، وغير ذلك من هذه الدعاوى العريضة التي تهدم ولا تبني، وتفسد من حيث تريد الإصلاح أو لا تريد.

وكم من بحث أصيل ليس لصاحبه فيه إلا فضيلة الجمع والتبويب والترتيب، وما معجم ألفاظ القرآن منا ببعيد، وهو كتاب أفاد منه آلاف الباحثين وطلبة العلم ولا يزالون، وهو الذي عرّف بصاحبه وجعل له قدم صدق في العالمين، وعلى ذلك فقس كل ما كان من هذا النوع من التأليف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير