ـ[أنوار]ــــــــ[25 - 11 - 2009, 08:55 م]ـ
كلمة في العزو
ثم على الباحث أن يجتهد في عزو ما ينقله عن غيره إلى أصحابه، ورده إلى مصادره، ولْيتق في ذلك ربه، وليُرحْ ضميره. وقد رأينا من الباحثين من يعييه فعل ذلك وهو عليه شاقّ، فتراه إن استحسن رأياً أو عبارة أدرجها في كلامه وكأنها من بنات أفكاره، وعصارات قريحته، ولم يعلم بأن الله يرى، وأن القرّاء ليسوا بجهلة ولا مغفلين، وأنه لو نسب القول لصاحبه لكان ذلك خيراً له وأحسنَ تأويلاً، فإنه إن جاء بالبديع الذي يغلب على ظنه أن كثيراً من القرّاء لم يطلعوا عليه، ثم نسبه لقائله، وأحال إلى الكتاب الذي رجع إليه وأخذ عنه، دل ذلك على سعة اطلاعه، وسلامة ذوقه، وحسن اختياره، وإلا فمتى اتكل الكاتب "على الهوينى والوِكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلاً، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة " [15] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn15) .
وليغالب الباحث في ذلك نفسَه، فيَظلِفها مرة ويكبحها أخرى، ليحملها على قول الحق والاعتراف به، فِعْلَ الشيخ محمود شاكر رحمه الله مع مستشرق يهودي صحح له خطأ وقع فيه، حيث قال: "وكنت أخطأت في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتني من الأرض المقدسة التي دنسها اليهود، رسالة رقيقة من (م. ي. قسطر) فدلني على الصواب الذي ذكرته آنفاً، فمن أمانة العلم أن أذكره شاكراً، كارهاً لهذا الذكر ".
ويعلق الدكتور محمود الطناحي رحمه الله على هذه الحادثة بقوله: فانظر وتأمل كيف اعترف بالصنيعة وشكرها، ثم لم يخف ما في نفسه [16] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn16) .
وليسمح لي القارئ الكريم أن أسوق له مقدمة مقالة لميخائيل نعيمة عنوانها " نقيق الضفادع " لشديد صلتها بموضوعنا، يقول بعد العنوان مباشرة: " ليس هذا العنوان من مبتكراتي. بل قد سرقته يا سادتي، من ديوان فريد لشاعر فريد، وشجعني على السرقة أمران: أولهما أن الديوان لم ينشر بعد. وثانيهما أن صاحبه رفيق لي قديم وصديق حميم. أما الديوان فاسمه الأرواح الحائرة، وأما ناظمه فاسمه نسيب عريضة.
وإنصافاً لنفسي ولصاحب " الأرواح الحائرة " يجب أن أعرفكم هنا أن وجه الشبه بين قصيدته وهذا المقال يبتدئ بالعنوان وينتهي بالعنوان. فلا قرابة بين ضفادعه وضفادعي من حيث النقيق. وهو يحدث عن ضفادع المستنقعات، وأنا أحدث عن ضفادع البشرية " [17] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn17). وما سقت هذا القدر من كلام نعيمة، إلا لأريك كيف ابتدأ مقالته بهذا الاعتراف الجميل، مع ما بين المقال والقصيدة من فرق كبير!
ومن حق القارئ على الباحث أن يقدم له معلومات صحيحة موثقة، وأن يمحضَه النصح ولا يهوش عليه بمصطلحات يختفي مع صوتها صوت الحقيقة، وكذلك أن يحترم عقله، ويحسن الظن به. والذي يطيل النظر في كتابات العلماء المسلمين القدامى يأخذه العجب من دقة نقلهم، وشدة حرصهم على ضبط ما ينقلون، وتوخيهم النصح لله في ذلك ولرسوله وللمؤمنين، وما علم القراءات ولا الحديث ولا اللغة منك ببعيد! هذا مع أنه لم يتوفر لهم ما هو متوفر للباحثين في هذا الزمان من أدوات البحث ووسائله، إذ المكتبات في كل مكان، فيها الكتب المحققة، والفهارس المفصلة، والأبحاث العلمية المتنوعة، والدوريات والنشرات، والخرائط والصور، ناهيك بالحاسوب وعالمه، والشبكة العنكبوتية وما جاءت به.
ولئن جعلت هذه الأدوات عمل الباحث أسهل، فإنها تزيد من تبعته، وتضاعف من مسؤوليته، إذ لم يعد يقبل من الباحث ألا يكون دقيقاً فيما ينقل، وإن كان في غير تخصصه. وليخش الذين يوسعون في بحوثهم لضعيف الحديث ومنكره وموضوعه، من بعد ما تبين لهم الحق، أن تصيبهم قارعة من غضب القارئين، أو تحل بهم لعنة من لعناتهم، فقد غدت المجاميع الحديثية لا تكاد تخلو منها مكتبة باحث جاد، ناهيك بمكتبات الجامعات والمؤسسات العلمية، وكذلك الذين ما يزالون يكررون ذكر وقائع تاريخية بان عوارها، وانكشفت سوأتها، ووقف القاصي والداني على بطلانها. وأسوأ من أولئكم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو يستشهدون بكلام في معزل عن سياقه، أو يستدلون بأدلة في غير موضعها، لياً لأعناق النصوص، وخروجاً بها عما وضعت له أو جاءت من أجله.
ولا إخال امرأ يحترم نفسه سيلقي السمع وينصت باحترام لفقيه لحنُه في العربية يسبق إعرابه، أو أصولي يغلب خطؤه في النحو صوابه، أو مفسر لم يمتلك ناصية علوم الآلة من اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة، بله الإحاطة بعلوم القرآن وقواعد التفسير، ومعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وما إلى ذلك مما لا غناء عنه لمن أراد أن يتكلم في كتاب الله تعالى. وهيهات هيهات أن يطربك حديث في العربية أو الأدب أو البلاغة أو النقد، وصاحبه ركيك العبارة ضعيف البيان، كأنه لم يمرّ يوماً بكتاب الله تعالى، ولا بحديث نبيه الكريم، وليس يمت إلى بليغ القول بحبلٍ ولا يمد إليه بسبب.
¥