ـ[أنوار]ــــــــ[25 - 11 - 2009, 08:44 م]ـ
كلمة في التنقيح
وبعد كل ما قدمنا من وجوب إعطاء الموضوع حقه من الوقت، بدءاً من انقداح الفكرة في ذهن الكاتب، حتى اختمارها فيه، ثم نضجها واستوائها على الورق أمام ناظريه، فإن على الباحث أو كاتب المقالة أن يكر على ما يكتب بعد الفراغ منه، فيعمل فيه قلم الحذف والتغيير، والتشذيب والتهذيب، لا من أجل المعنى فحسب، ولا من أجل الشكل وحده، بل من أجلهما معاً، فالمعنى هو الأصل، والكاتب مدعوّ لأن يعيد النظر فيه فيقرأه مرة ومرة ومرة، ليُحْكِم فكرة، أو ينضج رأياً، أو يزيل لبساً، أو يخفف مبالغة، وليعلم أن صلاح لفظه لا يقوم بفساد معناه، كما جاء في توقيع الحسن بن سهل على كتاب لسهل بن هارون، ألفه في مدح البخل وذم الجود، ليظهر فيه قدرته على البلاغة [8] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn8).
ولكن الشكل لا يقل أهمية، ولينظر الكاتب فيما كتب نظرَ المثقِّف، فيعتنى بتأليفه، ويتأنق في ترصيفه، مستبدلاً كلمة بأخرى أجمل منها موقعاً أو أخف لفظاً أو أقرب منالاً أو أشد اتصالاً بالموضوع، أو محكماً عبارة قلقة في موضعها، نابية عن غيرها.
وتحضرني في هذا السياق قصة إملاء أحمد أمين مقالة على إحسان عباس- وكان أمين يملي بآخرة من حياته - في موضوع البطولة والأبطال، إذ ختم المقال بنكتة طريفة، وبعد أن أسمعه إحسان ما أملاه قال: احذف الفقرة الأخيرة فإنها غير منسجمة مع الموضوع [9] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn9) .
ومثل هذا ما ذكره الجاحظ من شأن معاوية رضي الله عنه من أنه "مع تخلفه عن أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: " لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحَرّة " ثم قال: " امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب ". قال الجاحظ: كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه [10] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn10) .
وأولى من هذا بالحذف والمحو ما فضل عن الحاجة وإن كان حسناً كله، فلأن ينقص الكتاب عن مقدار الحاجة أحب من أن يفضل عن مقدار القوة، لأن الملالة تبغض في الجميع، وتزهد في الكل، و" من شأن النفوس الملالة لِما طال عليها، وكثُر عندها، فليس لنا أن نكون من الأعوان على ذلك، ومن الجاهلين بطبائع البشر، فإن أقواهم ضعيف، وأنشطهم سؤوم "، كما قال الجاحظ [11] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn11) .
وكم من مقالة فيها من بديع المعاني وعظيم العبر راحت طي النسيان، ولم ينوه بذكرها أحد، لأنها لم تحظ بالوعاء المناسب من الأسلوب، الذي يشجع الناس على قراءتها والاستمتاع بها. ومن هنا كان العقاد يرى أن الكتابة الأدبية فن، وأن الفن لا يكتفى فيه بالإفادة ولا يغني فيه مجرد الإفهام [12] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn12) .
وأنا شديد التعجب ممن يكتب بحوثاً في اللغة أو النقد أو الأدب، ثم تأتي بحوثهم وقد كتبت بلغة ركيكة المعاني والمباني على السواء، وكثيراً ما أتساءل فيما بيني وبين نفسي: وما فائدة دراسة النقد والأدب إن لم يقومِ المرء بها أسلوبه، ويجوِّدْ عبارتَه، ويُحسّنْ عرضَ فكرته وتأديةَ معانيه، ويخرجْ بها من ضيق العي إلى بحبوحة البيان؟ بل إنك تنظر في كثير من هذه الكتابات والبحوث فلا تكاد تظفر منها بشيء إلا بشيء لا يُعوّل عليه، من الأسماء والمصطلحات التي لا طائل تحتها ولا غناء فيها، بل يصدق فيها قول العرب: أسمع جعجعة ولا أرى طِحناً.
ومَثلُ هؤلاء مَثل بعض أهل الحديث الذين شغلهم جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه عن التفقه فيه، وفهم لغاته ومعانيه، واستنباط أحكامه ومراميه، مما الناس إليه في دنياهم وأخراهم أحوج، وقد صدق فيهم قول جعفر السراج إذ قال:
إذا كنتم تكتبون الحديـ ....... ث ليلاً وفي صبحكم تسمعون
وأفنيتم فيه أعماركم ...... فأي زمان به تعملون؟! [13] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn13)
على أن لهؤلاء عليهم درجة، فهم قد اشتغلوا بكلام سيد الأولين والآخرين، وأكرم به من كلام، وأما أولئك فقد اشتغلوا بنظريات جاءتهم من كل مكان، وما أكثرهم بمدركين ما تخفي وراءها من خبيث الأفكار وهادم الفلسفات.
وكلما تحدثت عن الأسلوب في الكتابة، قفزت إلى خيالي صورة محلات "هارودز" في لندن، تلك التي تنفق مبالغ طائلة على تصميمات طرائق العرض، وأساليب التسويق، وتعنى كل العناية بواجهاتها الزجاجية، وتتفنن في التأنق والتزيين، والتجويد والتحسين، لإغراء الزّبائن واجتذابهم، فمن دخلها منهم عومل بمنتهى الرقة وغاية الإحسان.
وما ذاك إلا لأن الأفكار والمعاني بضاعة يجب الاعتناء بعرضها، كما يعتنى بعرض سائر الأشياء، وإلا انصرف الناس عنها، وصَغَوا إلى غيرها، وقد صدق الطناحي إذ قال: " وحسن البيان وتجويد العبارة كانا لازمين لكل كاتب يريد لكتابته أن تقرأ، ولكل مفكر يريد لأفكاره أن تذيع " [14] ( http://www.fustat.com/muawat/hamdan_1.shtml#_edn14) .
بل إن هذه هي سبيل جميع الكتّاب والأدباء الذين لمعت في سماء الفكر والأدب والثقافة أسماؤهم، وقرأ الناس كتابتهم وتأثروا بأساليبهم.
وفيم نمضي بعيداً وفينا كتاب الله ينطق بذلك، فقد قال الله تعالى لرسوله الكريم: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، أي لو ساء عرضك البضاعة لم يشفع لك حسن المعروض، وهل ثمة أحسنُ من حسن الحديث؟
¥