أعود للاتينية, فسبب موتها هو ما تعانية العربية اليوم, وهو انقسام اللغة إلى لغة عالية وهي لغة الأدب ولغة "سوقية" (حسب التسمية المعروفة) سرعان ما انتشرت, ثم بترحل الناس وانتشارهم في الأرض تطورت لغتهم السوقية إلى اللغات اللاتينية المعروفة الآن وماتت تلك اللغة العالية مع الوقت. ولموت اللغة صور أخرى منها أن تنحسر وتقتصر على مجالات ضيقة كالتعبد, ومجال التعبد هو يحمي العربية من الاندثار ولكنه لا يحميها من الانحسار, وإذا ما انحسرت واقتصرت عليه هو فقط فإنه سيأتي بعد جيلين جيل يتعامل مع العربية كما يتعامل معها التركي المسلم مثلا, يفك حروفها ويقرأ القرآن, غير أنه لا يعي من معانيها إلا القليل, وهذا نشاهده اليوم عند جزء غير صغير من الجيل الحالي. وقد أثبت هذا العصر أنه يمكن إحياء اللغات الميتة, ليس الإحياء التام كالبعث, بل إحياء جزئيا يجعل تعلمها ممكنا وفهمها ودراستها, ولنا في اللاتينية والعبرانية مثالان كبيران. فكيف نعجز نحن عن تطوير لغة حية والعالم يحيى لغات ميتة؟
كنا في السابق نظن أن الأمية هي السبب في انتشار ضعف اللغة, ولما انتشر التعليم في الوطن العربي أصبحنا نقول ليت الأمية تعود, بسبب تفشي الرطانة وتفضيل ألسن الغرب على العربية وتقديمها في المعرفة والعلوم والوظيفة, هذا ما لم يكن زمن الأمية. ولا ألوم الجيل على ما هو عليه, فإنه ضحية - ضحية مناهج ضعيفة فاشلة وسياسات تربوية وتعليمية تعاملهم كقطعان الخرفان, لا كذوات ينبني عليها مستقبل أمة كاملة, وسياسات تكرس لعلوية اللغات الغربية على العربية في كل المجالات العلمية, ومجامع تسكن أبراجا عاجية – فهل ننتظر بعد كل هذا جيلا يتقن العربية؟ وكم لنا في الفصيح من إخوة وأخوات يأتوننا يطلبون تعلم العربية لوعيهم بأن ما حصلوه زمن الابتدائية والثانوية لم يمنحهم من يحتاجونه ولم يشجعهم على طلب المزيد, فيستفيق فيهم حب لسان القرآن فيأتوننا طالبين العون والإرشاد, فهؤلاء نشكرهم كثيرا, ونسأل الله أن يكثر منهم, وربما ينال العصامي من العربية حظا لا يناله الجالس في فصول مدارسنا العربية.
أما كلمة "سمة" وأصلها العربي, فما هذا بمزية, فاللغات تأخذ من بعضها البعض, هذا إذا ثبت أصلا أن كلمة sema اليونانية من أصل عربي, حتى ولو ثبت ذلك, فقد أخذت اليونانية "سمة" وأعادت إلينا semantic و semiology في حين لم تقدم العربية غير السيمائية, فمن الأخصب إذن؟ وإن كانت العربية ستأخذ من اللغات كلماتها ثم تتكبر عليها فلترجع الكهرباء إلى أصحابها والهندسة والمغناطيس والفلسفة والتكنولوجيا ووو, ثم لتبحث لها عن ألفاظ من عندياتها تعوض بها المفقودة. ربما ستقول لي أن هذا يظهر قدرة العربية على استيعاب الكلمات الدخيلة, فأقول أن هذا ميزة كل لغة في هذا العالم, ولا فضل للعربية فيه, بل على العكس, كيف ستشتق العربية أفعالا من كلمات كالتكنولوجيا والديموقراطية وهي لا توافق النظام المقطعي فيها؟ وإن كنا سنأخذ كل لفظ من عند غيرنا, فنحن حتما لسنا أفضل من ذلك الغير الذي يمنحنا ألفاظه, وما أسهل اعتماد الدخيل, وهو أمر يستطيعه حتى العامة من الناس, واسأل جدتي الأمية جدا عن "المينوم" تعريبا منها لكلمة "أليمينيوم" صعبة النطق - تعريبا أراه أجمل وأقرب إلى نظام العربية من الكلمة المعتمدة في المعاجم.
ليس في هذا العصر لغة عظيمة, بل ثمة لغات قوية, بعضها قوي بعدد متكلميه كالصينية وبعضها بالقوة السياسية كالفرنسية وثمة مثلث الرعب – استعارة من عالم كرة القدم – فيه الأمريكية (تمييزا لها عن إنغليزية بريطانيا) رأس حربة, واليونانية جناح أيمن واللاتينية جناح أيسر. فهذا الثالوث هو الذي يوفر المصطلحات العلمية في هذا العصر لكل العالم وفي كل مجال. ورغم أن اليونانية لا تزال تمد العلوم بالمصطلحات إلا أن قومها لم يكتفوا بذلك يقولوا: "نحن الأفضل! " ثم يكتفون أيديهم مزهوين كما نفعل, بل طوروا لغتهم وعملوا على ترقيتها رغم أنها لا تكتب بالحروف اللاتينية وتمثل عائقا في الاتحاد الأوربي, إلا أنهم حافظوا عليها وعلى أبجديتها. فما الذي يمنعنا نحن؟
¥