تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيحتاج إلى إجماعٍ أو توقيفٍ أو ما عَلمه من عجز العرب قاطبةً عنه. ففي قولهم هذا كفاية في الدلالة على عدم وجود ضابط لغوي يُعْرَف به الإعجاز، وفي الدلالة على أن مجاوزة الحدّ في البلاغة وصف غير منضبط، فهو نسبيّ يختلف من شخص إلى آخر، بحسب تمكّنه وذَوْقه، وليس عائداً لأمرٍ ذاتي في نفس البلاغة.

هذا كله من حيث اللغة. أما من حيث الدليل فإن الدليل القطعي قد قام على أن القرآن بجملته معجز، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تحدَّى العرب بالقرآن، فقال عزَّ منْ قائل: {قُلْ لئِن اجتمعت الإنسُ والجِنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثْله ولو كان بعضُهم لبعض ظَهِيراً}. فعَجز المخاطَبون جميعاً عن الإتيان بمثل القرآن.

وقام الدليل القطعي كذلك على عجزهم عن الإتيان بجملة من القرآن، فقال تعالى: {أمْ يقولون افتراه، قُل فأتوا بعشرِ سُوَرٍ مِثْلهِ مُفْترياتٍ، وادعوا من استطعتم مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كنتم صادقين}. فعجزوا جميعاً عن الإتيان بعشر سور مثل القرآن.

وقام الدليل القطعي كذلك على عجزهم عن الإتيان بجزء منه وهي السورة، قال تعالى: {وإنْ كنتم في رَيْبٍ مما نزَّلْنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مِثْله وادْعُوا شُهداءَكم مِنْ دون اللهِ إنْ كنتم صادِقين}، وقال: {أمْ يقولون افتراه، قُلْ فأتوا بسُورةٍ مثْلهِ وادْعوا من استطعتم مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كنتم صادقِيِن}. وقد عَجَزوا جميعاَ عن الإتيان بسورةٍ من مثل القرآن، وهذا هو أقلُّ قدر معجِزٍ من القرآن دلّ عليه الدليل اليقينيُّ، وهو السورة من القرآن صغيرةً كانت أم كبيرةً، ولم يقم دليل على عجز العرب عن المعارضة في أقلَّ من هذا القَدْر. والأمر المتفق عليه بين المسلمين أن القرآن جميعَه معجز، وأن العشر سور منه معجزة، وأن كل سورة برأسها معجزة، وما عدا هذا فمختَلف فيه، لعدم وجود الدليل القطعي الرافع للنزاع،. فقيل: إذا كانت الآيةُ بقدر حروف سورةٍ وإنْ كانت سورَة الكوثر فذلك معجز، أو المعجز هو كل ما كان بمقدار سورة. وقيل: المعجز هو ما كان بمقدار أطول آية، وقيل: يُشترط للإعجاز أن تكون الآيات كثيرة. وهذه الأقوال ترجع إلى أصلين، الأول مبني على القياس، والثاني مبني على أن تمام الحديث وظهور البلاغة لا يتبيّن في أقلّ من أطول آية أو آيات كثيرة. وهذا كلّه لا شيء ولا ينهض دليلاً على الإعجاز، لأن الإعجاز من العقيدة، ودليل العقيدة لا بد أن يكون قطعيَ الثبوت قطعيَ الدلالة.

أما القياس هنا فهو قياس في العقيدة وهو باطل، لأن العقيدة لا تثبت بالقياس، وإنما تثبت بالدليل القطعي سوء كان عقلياً أو نقلياً. والقياس هنا لا يفيد القطع، بل لا يفيد الظنّ، فإنهم قاسوا حروف الآية على حروف السور ولم يأت في القرآن إشارة على اعتبار عدد الحروف، ولا فرق بين هذا القياس وبين قياس عدد الآيات على عدد آيات أصغر سورة أو أي سورة، وقد يقاس بقياس غير هذين، وليس أحدها بأولى من الآخر، لأنها قياسات نظرية لا تقوم على أساس.

على أن القياس من الأدلة الإجمالية وهي ثابتة في الفروع الفقهية بإلحاق فرعٍ بأصلٍ بجامعٍ بينهما، ولم يقم دليل على اعتبار القياس في العقيدة، بل إن القياس في العقائد ممتنع، لأنها غير معلَّلة، وليس فيها فرع وأصل، بل كل ما كان من العقيدة فهو أصل. فالعقائد تُعرف بالدليل المنصوب إلى إثبات وجودها، ولا تُعْرف بالقياس.

والقول الثاني مبني على ربط الإعجاز بالبلاغة والفصاحة المجاوزة للحدّ، وقد ثبت بطلانه لأن البلاغة والفصاحة غير الإعجاز، وأنه لا بدّ للكلام البليغ والفصيح من نظم ينظمها على وجه معجز، وأن وصف المجاوزة للحدّ وصف اعتباريّ وليس وصفاً حقيقياً. على أن في القولين المذكورين إغفالاً لحقيقة التحدي حين اعتبرا الإعجاز في مقدرا غير مقيَّد، بينما حقيقة التحدي في المقدار الأقل قائمة على التحدي بسورة مثلِ القرآن، أي مثل سور القرآن؛ لأن ((مثله)) في الآيات صفة للسورة، أي أن السورة قَيْد للمثلية، فعلى قابل التحدي أن يأتي بمثل سورة محدَّدة من القرآن على الأقل، بمثل ما فيها من أساليب. فالذي يقبل التحدي بسورة الكوثر عليه أن يأتي بمثل أسلوب نظمها وحجمها، والذي يقبله بسورة البقرة عليه أن يأتي بمثل أسلوبها، أو أساليب نظمها وبحجمها حتى تتحقق المثلية. وعليه فإنه أقل قدر قام الدليل القطعي على إعجازه هو السورة في القرآن، ولم يقم دليل على أقل من ذلك المقدار مطلقاً.

6 جمادى الأولى 1419 هـ

28/ 8/1998 م

* منقول وبدون أي تعديل، يعرض لتبادل المعلومات والتأكد من صحة ما نقرأ.

ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[28 - 07 - 2008, 02:13 م]ـ

بوركت

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير