تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حق الباري، عز وجل، من جهة، وآحاد خلقه من جهة أخرى، كالمسيح عليه الصلاة والسلام، مع كون الباري، عز وجل، أو "اللاهوت" كما يطلق النصارى عليه، ليس كمثله شيء في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهي معلومة المعنى مجهولة الكيف قد استأثر الله، عز وجل، بعلمها، وكون المسيح عليه الصلاة والسلام، أو "الناسوت" كما يطلقون عليه، بشرا تدرك العقول والحواس خصائصه: معنى وكيفا، فإذا كان هذا الاتحاد: "مستحيلا ذاتيا"، لا يتصور وقوعه بين مخلوقين مع اشتراكهما في خصائص النوع، فهو أشد استحالة بين الخالق، عز وجل، من جهة، وذوات مخلوقاته من جهة أخرى، وإن كانت أشرف الذوات، ويكفي لإبطال ذلك: التباين بين وجود الباري، عز وجل، ووجود خلقه، مع كونهما قد اشتركا في معنى "الوجود" الكلي: فوجود الباري، عز وجل، واجب، أزلي، أبدي، لا يعتريه نقص، ووجود المخلوق، ممكن، يسبقه العدم، ويلحقه الفناء، ويتخلله النقص، فكيف يصح في الأذهان التسوية بين متباينين لمجرد اشتراكهما في معنى كلي مجرد لا يلزم من إثباته تسوية؟!!!!.

ومعرفة الحقائق دون إثبات معان كلية تدركها العقول، ضرب من المحال، فالشجاعة: معنى كلي يدل على حقيقة الشجاعة، .............. إلخ، فلو صح نفي "المشترك المعنوي" لبطلت دلالة الألفاظ على معانيها، ولصارت اللغات غير مفهمة، والأقوال غير ملزمة.

وبهذا رد أهل السنة على من نفى صفات الباري، عز وجل، بحجة أنه يلزم من إثباتها تشبيه الله، عز وجل، بخلقه، لمجرد الاشتراك في الألفاظ الدالة على الصفات، والمعاني الكلية المشتركة التي تدل عليها.

فقد تقدم أن هذه المعاني الكلية لا توجد مطلقة إلا في الأذهان، فإثباتها ليس إثباتا لشيء خارج الذهن، ليقال بأنه يلزم منه التشبيه أو التمثيل، فإن المعنى الكلي لا يتجسد خارج الذهن مطلقا، وإنما يوجد قائما بغيره، كقيام الشجاعة بالشجاع والذكاء بالذكي .............. إلخ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهكذا جميع الأمور المعنوية، وبذلك تبطل حجة النصارى في ادعائهم تجسد كلمة الله، عز وجل، في شخص عيسى عليه الصلاة والسلام، فإن الكلمة هي: الكلمة التكوينية: "كن"، وهي صفة من صفات الباري، عز وجل، تقوم بذاته القدسية، فلا قيام لها في الخارج بنفسها، فيستحيل وجودها خارج الذهن: عينا قائمة بنفسها، هي: عين المسيح عليه الصلاة والسلام، لأن لازم ذلك: موت الكلمة بموت المسيح عليه الصلاة والسلام، وهو أمر محل اتفاق بين المسلمين الذين يقولون بموت عيسى عليه الصلاة والسلام بعد أن ينزل في آخر الزمان ليقتل الدجال، والنصارى الذين سلموا لليهود أعداء المسيح عليه الصلاة والسلام بقتله، فقالوا بصلب "الناسوت" على خشبة الصلب فداء للنوع الإنساني. ولازم موت الصفة موت الموصوف، لأن الصفة فرع عليه، فيلزم من ذلك موت الباري، عز وجل، وهو لازم في غاية البطلان، لأن الموت: صفة نقص مطلق، يستحيل على الله، عز وجل، الاتصاف بها، فهي في حقه من: "المحال لذاته".

ولا عبرة بقول من قال: هي كلمة الله، حلت في المسيح أو اتحدت به، فليست هي عينه، وإنما حلت فيه أو اتحدت به إذ ذلك من المحال، أيضا، لأن اتحاد غير المخلوق بالمخلوق يلزم منه طروء النقص على الأول، وصفات الله، عز وجل، منزهة عن العيب والنقص، ولأن الصفة لا تفارق موصوفها، فالكلام ينسب إلى قائله نسبة لا انفكاك فيها، والكلمة التكوينية من كلام الله، عز وجل، فنسبتها إليه نسبة صفة إلى موصوف، لا مخلوق إلى خالق، فكيف صح أن يفارقه وصفها، فتقوم بمحل غير ذاته القدسية، ومع ذلك تبقى وصفا له، فيكون المسيح عليه الصلاة والسلام: كلمة الله، على جهة الوصف، وإنما تصير الكلمة عندئذ من أوصاف المحل الذي قامت به، وهو المسيح عليه الصلاة والسلام، فيلزم من ذلك انقطاع النسبة بين كلمة الله التكوينية وذاته القدسية، وانقطاع الصفة عن موصوفها، كما تقدم، أمر غير متصور إلا على سبيل الفرض الذهني الذي يفرض ذاتا مجردة وصفات قائمة بنفسها ويركب منهما: الذات الموصوفة التي توجد خارج الذهن حقيقة، كما أشار إلى ذلك ابن أبي العز الحنفي، رحمه الله، في "شرح الطحاوية".

يقول ابن تيمية رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير