تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما أن السير وراء التأويل وفق هذه الرؤية يجعل قراءة النص خارجية، في حين يفترض من المجتهد أن ينطلق من النص نفسه وتركيبه ودلالات ألفاظه دون أن يتعب ذهنه في البحث عن الدلالات الخافية، وما يمكن أن يفهم بعد منطوق النص. والحقيقة أن منهج ابن حزم هذا المعتمد على البيان رأساً يتمشى مع طبيعة المعجزة القرآنية بوصفها دليلاً بيانياً أقامه صاحب المعجزة على العرب أهل البيان فتكون بذلك المعادلة متساوية الأبعاد ولو افترضنا طبيعة أخرى للنص المعجز لما كانت للمعجزة قيمة حين تخالف في جنسها وطبيعتها الهدف الذي أوجدت له.

إنه من الضرورة بمكان أن يقارن ابن حزم في ظاهريته هذه بالتيارات الفقهية والكلامية والفلسفية في زمانه ليتم الإدراك الواعي بتفوّقه وجدية أطروحاته دون حاجة إلى مزايدات مبنية على مواقف ذاتية وأهواء مذهبية، ولسنا في حاجة إلى أن يقنع بعضنا بعضاً بأنها روافد رغم اختلافها، وربما تناقضاتها تصب في النهر الخالد نهر الثقافة الاسلامية التي ندين لها بضرورة نقدها وغربلتها من جديد وتقديمها في ثوبها الأصيل بكل طاقاتها الخلاقة وأفكارها التجديدية للعالم في إطار أسلمة المعرفة.

وفي إطار هذا الموقف نؤكد على نقطة مهمة هي أن الدّعوة الظّاهرية إن سمح لنا اعتبارها كذلك – اتجاه فكري نقدي لم يكن هدفه النيل من رموز فقهية معينة بقدر ما كان دعوة إلى تغيير الفكر العربي وتجديد رؤيته لأمهات القضايا التي تمس الناس في حياتهم ومعادهم، كما يجب أن يفهم من حدة طبع رائد هذا الاتجاه غيرته على أصول الدين وطموحه الناجح لهدف نبيل. ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الآراء الصائبة التي سادت عبر الزمن لم يكن لها خيار في استعمال لغة كلغة ابن حزم في كثير من الأحيان، فإن لم يكن "الجدال بالتي هي أحسن" سلاحها، كان السلطان موصلها لعقول الناس قبل قلوبهم.

ويمكننا أيضاً أن ندرس نشأة هذا المذهب وتطوره وآثاره العلمية والسياسية ومنهجه الأصولي دون حاجة منا إلى إدراجه ضمن قائمة المذاهب الأثرية والنصية التي تقبلها أهل الأندلس ولم يتقبلوا غيرها لأسباب لا يسمح المقام بعرضها، واستبعادنا لهذه الحاجة مبني على تحول المنهج الظاهري من مجرد منهج أثري نصي إلى منهج لساني من طراز خاص تفكك به النصوص الدينية سواء أكانت إسلامية في الحوار الذي دار بين أساطين الفكر الفقهي كابن حزم والباجي مثلاً، أم اسلامية يهودية كنقد ابن حزم للكتاب المقدس في الفصل والرد على ابن التغريلة اليهودي، ورده كذلك وفق وجهة نظر ظاهرية على الفلاسفة والفرق الإسلامية. فلا غرو بعدئذٍ أن نعد حركته شمولية مبنية على منهج بياني برهاني واضح وضوح اللغة التي نزل بها الوحي، بل إن الظاهرية في التعامل مع النص وفق ما تتيحه إمكانات اللغة أضحت نزعة لدى الكثيرين، وقد كان المقريزي في مصر يكتب بهذه الروح، كما اضطلع الصوفي الشعراني بحفظ كثير من آراء الظاهرية، في حين يكثر الفخر الرازي من إيراد التفسير الظاهري للآيات، وبالروح نفسِها راح ابن مضاء القرطبي ثائراً على نظرية العامل في النحو العربي، وثورة ابن حزم على القياس والعلة وفروعها لا تفترق ثورتهما كثيراً إلاّ في بعض الجزئيات التي يفرض اختلاف الموضوع حدوثها.

وسنحاول بعون الله مد الجسور للتعرف إلى بعض آراء ابن حزم المشكّلة امنحى تفكيره العلمي والمنهجي دون أن ندّعي صحة ما ننسبه له فقد يكون انتصاراً له أو تجنياً عليه، وستكون أولى وقفاتنا مع نظريته في اكتساب المعرفة ثم نعرض لملامح منهجه العلمي التي تظهر عقلانيته المتزنة، وفي ضوئها نحدد موقفه من المنطق والفلسفة القياس، ثم نعرض لمفهوم الدليل وحجيته في النظرية الحزمية لنختم كلامنا بتحديد معالم الظاهرية الحزمية في ضوء مفهوم البيان القائم على البرهان.

2 - نظرية المعرفة عند ابن حزم (الأصول والأبعاد)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير