وعندما نظرت في جهود المحدّثين الذين عاصروا نشوء موجة التشكيك هذه مثل الشيخ المعلّمي، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ أبي شهبة، والدكتور السباعي وغيرهم – وجدت لهم جهودا مشكورة في الذب عن السنة بشكل عام والصحيحين بشكل خاص؛ حيث فندوا شبهات أمثال أبي رية وأحمد أمين وغيرهما.
مشكلة الدراسة
وبعد ما يقرب من قرن من الزمان وجدت أعداء السنة يتكاثرون وشبهاتهم تزداد وتتوسع، حتى اجترؤوا على الطعن الصريح في الشيخين، وتكذيب كثير من أحاديث كتابيهما، والسخرية منها وممن يصححها وعلى رأسهم الشيخان؛ بحجة أن فيها ما يخالف القرآن أو العقل أو العلم الحديث أو الحس والواقع المشاهد أو التاريخ، وادعوا زوراً أن في الصحيحين أحاديث تسيء إلى الله عز وجل، وإلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وغير ذلك من المتناقضات والأباطيل؛ فزعموا باطلاً أنه لا يجوز إطلاق لفظ الصحيحين عليهما، ولا وصف الشيخين بالإمامة في الدين لضحالة علمهما في نقد المتن وترويجهما المكذوبات في صحيحيهما.
وقد وجدت أن هؤلاء الطاعنين يهدفون إلى إثبات عدم جواز الاعتداد بالسنة النبوية مصدرا ثانيا للتشريع الإسلامي خدمة لاتجاهاتهم الفكرية المختلفة، فإذا استطاعوا إسقاط أهم مصدرين من مصادر السنة وأصحها فقد مهدوا لإسقاط كتب السنة الأخرى، وبهذه النتيجة يتوصلون إلى إلغاء الاعتداد بالسنة النبوية في التشريع، وجعل الرأي والمذهب والجذور الفكرية المستوردة بديلا مقبولا لأحاديث - النبي صلى الله عليه وسلم - في تأسيس تشريع جديد لا يتعارض مع عقولهم واستحساناتهم.
ولم أقف على جهد مواز يتناول هذه الطعون بالنقد والتقويم بمستوى جهود من تصدى للهجمة الجديدة في بدايتها، خاصة أن حجم الأحاديث المطعون بها في الصحيحين كبير نسبيا، وكثيرا ما يردد الطاعنون أنهم يوردون أمثلة فقط وليس كل ما في جعبتهم؛ مما يشعر القارئ بأن هذه هي البداية التي تنتهي بإسقاط الصحيحين للوصول إلى إسقاط السنة بأسرها مما يؤدي إلى تفريغ الإسلام من محتواه.
لذلك كله كان من الواجب على المختصين بعلوم الحديث أن يكونوا خير خلف لخير سلف؛ بإكمال ما بدؤوه من جهد في نقد الشبهات ذبا عن السنة ووفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردت من هذه الدراسة أن تكون حلقة أخرى من حلقات النقد الحديثي المعاصر تبني على جهود السابقين لإقامة صرح علمي جديد يسد ثغرة خطيرة في جدار الذب عن السنة.
ولما كان الموضوع أكبر من أن تتناوله دراسة واحدة لتعدد جوانبه واتساع مجالاته؛ قررت أن أطرق جانبا واحدا أتناوله بالدرس والتحليل والنقد والتقويم؛ كي يتسنى للدراسة أن تكون أدق وأعمق وأكثر إفادة.
وقد وقع اختياري على دراسة ظاهرة الطعن في أحاديث الصحيحين بدعوى مخالفة القرآن؛ لأن هذه الدعوى أحد أهم الأسس التي اعتمد عليها الطاعنون جميعا على اختلاف مشاربهم الفكرية، وقد بلغ عدد الأحاديث التي طعنوا بها لهذا السبب أكثر من (800) حديث، وعارضوا كل حديث منها بالقرآن من عدة وجوه.
وهذا العدد الكبير من الطعون لا يمكن نقدها وتقويمها في رسالة واحدة؛ لأن التعليمات الضابطة للرسائل العلمية تقيّد البحث بوقت محدد وصفحات محددة؛ لذلك تم اختيار دراسة نماذج من هذه الطعون، وقد اخترت أن تكون هذه الطعون خاصة بأحاديث أسباب النزول والتفسير النبوي، واخترت عنوانا يعبر عن حقيقة هذه الدراسة هو:
طعون المعاصرين في أحاديث الصحيحين الخاصة بأسباب النزول والتفسير بدعوى مخالفة القرآن: دراسة نقدية
محددات الدراسة
بالنظر في العنوان يمكن استخلاص محددات الدراسة وضوابطها، وأضيف إليها ضوابط أخرى تقتضيها قواعد البحث العلمي، وهي:
(1) أقصد بالمعاصرين أولئك الباحثين الذين ألفوا في نقد الصحيحين في العصر الحديث الممتد من بداية القرن الرابع عشر الهجري الذي يوافق القرن العشرين الميلادي تقريباً. ولم تشمل الدراسة طعونات غير المسلمين، أو تلك التي صدرت بغير اللغة العربية.
¥