كل الظن إثم.
قلنا: قد بين الله تعالى الاثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.
قال علي: فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد، للدلائل التي ذكرنا، وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم، وذلك أننا نقول لهم أخبرونا عن الاخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من روا ية الثقات خاصة؟ أم كلها باطل؟ أم فيها حق وباطل؟ فإن قالوا: فيها حق وباطل وهو قولهم.
قلنا لهم: هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه (ص) ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي (ص)، أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لاحد من الناس، وهل الشرائع الاسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة، ولا كلها لازم لنا، بل قد سقط منها بعد رسول الله (ص) كثير، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به، أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لان كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا؟.
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه (ص) بما ليس في الدين، وقالوا: لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به.
دخل عليهم في القول بفساد الشريعة، وذهاب الاسلام، وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف، سواء بسواء، ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء، أنهم يعملون بما ليس من الدين، وأن النبي (ص) قد بطل بيانه، وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء، وفي هذا ما فيه.
فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر، لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع، وبالموهوم فيه، ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الاسلام لم ينقل إلينا، إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها، وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر، بل أصحاب الاسناد أصح دعوى في ذلك، لشهادة كثرة الرواة وتغير الاسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق.
فإن لجأ لاجئ إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات، فإنه كذب موضوع ليس منه شئ قاله قط رسول الله (ص)، وقلنا وبالله تعالى التوفيق: هذه مجاهرة ظاهرة، ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه، وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم، ولجميع فضلاء التابعين، ولكل إنسان من العلماء جيلا بعد جيل، لان كل ما ذكرنا رووا الاخبار عن النبي (ص) بلا شك من أحد، واحتج بها بعضهم على بعض، وعملوا بها، وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للاجماع المتيقن، وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلا، لانا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها، بل كلهم وضعوا كل ما رووا.
وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك، وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله (ص)، وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة، روى عن رسول الله (ص) فإنه هو الواضع، والمخترع للكذب عن رسول الله (ص) فيه، ولا يشك أحد على وجه الارض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي (ص) أهله وجيرانه، وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم، أولهم عن آخرهم، وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ، مع أنها دعوى بلا برهان،
وما كان كذلك فهو باطل بيقين، في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها.
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله (ص) كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها، وهذا باطل بيقين كما بينا، وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم - لا نحاشي أحدا - قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله (ص)، وهذا انسلاخ عن الاسلام، أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لاحد أبدا، وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل، وبإكماله الدين لنا، وبأنه لا يقبل منا إلا دين الاسلام لا شيئا سواه.
وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به، وأنه لا سبيل لاحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا، وأن حقيقة الاسلام وشرائعه قد بطلت بيقين، وهذا انسلاخ عن الاسلام.
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى، موجبة كلها للعلم، لاخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر، ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به، ولاخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي، وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه (ص)، وفي فعله، وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه (ص)، وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين
¥