حتى إذا تغيرت كتابات الناس وتطورت، بدأ بعضهم يلاحظ اختلافا - ولو يسيرا - بين ما أحدثوا من الرسم، وما يجدوه في المصاحف الأولى = سئل عن ذلك مالك رح1 وغيره، فأفتوا بما علمتم، لتعلق بعض الرسم بالقراءة، لا لاعتقادهم بتوقيفه كما ظننتم.
وقلتُم وقلنا مرارا أن ليس كل ظواهر الرسم تتعلق بالقراءة والأداء، إنما بعضها. وحديثكم هنا عن المصحف كله، وليس عن كلمة واحدة أو كلمتين لا يختلف الأداء بتغير وجه رسمهما!
النقط والشكل لا علاقة له بموطن الخلاف لأنها إضِافات لم تذهب الرسم العثماني. وتشدد السلف واحتياطهم عند إدخال النقط والشكل يدل على أنهم يلتزمون الرسم العثماني بشدة. ولو كان علمهم أن الرسم منهم لما تشددوا فيه.
ما ثبت من تشدد بعضهم في ذلك أول أمره، لأمور منها خشية تغير ما قد يؤثر في القراءة ويحيلها، فهو حرص على القراءة أولا وأخيرا كما قلت. وخشية تأثرها بذلك إذ بدأ اللحن يفشو في الناس ويكثر، فلما تبين مصلحة ذلك رجعوا إليه وعدوه خيرا.
لا قيمة لإجماع الصحابة إلا أن يكون من قبيل الإجماع على أمر شرعي. فتمسك البعض بالرسم مع الزعم بأنه من اصطلاح الكتبة يوقعنا في تناقض.
مَن ظن أني أعتقد باصطلاح الرسم بمعنى أنه من اختراع الصحابة أو اتفاقهم على ظواهره ووجوه رسمه (كالمجامع اللغوية الآن مثلا، أو لجان مراجعة المصاحف)، أو اتفاقهم على حذف كلمة من مصحف معين وإثباتها في آخر لمصحلة ما، أو بمعنى أنهم اصطلحوا على زيادة حرف في كلمة كذا ونقصانه في أخرى لسبب ما رأوه = من ظن ذلك من كلامي فقط أخطأ، ولم يدرك ما أردت بيانه!
اعتقادي في الرسم - الذي لم أجد ما ينقضه إلى الآن، ويظهر لي كل يوم ما يؤكده - أنهم نسخوا المصاحف وِفق ما عرفوا وألفوا ونشأوا عليه وشبوا من نظام الكتابة وأساليبها وقواعدها في زمانهم - كما نحن الآن وغيرنا من الأمم في سائر كتاباتها -، ووفق ما علموه وانتقل إليهم من صنعة الكتابة ممن سبقهم من العرب أو الأمم القريبة منهم. ولم يجدوا في ذلك اختلافا بين ما يكتبونه في مصاحفهم وفي غيرها. كل ذلك وقع منهم دون اتفاق أو توقيف.
ورغم تطور الكتابة كل يوم وبُعد زمانهم عنا، ما زالت تحتفظ كتاباتنا بكثير من الظواهر الكتابية التي نجد آثارها جلية في رسم المصحف وغيره من النقوش القديمة التي بلغنا صفة رسمها. كمثل حذفنا الألف في (هذا، لكن، هؤلاء) وغيرها، وكمثل إثبات الواو في (أولئك، عمرو) وغير ذلك كثير جدا. ولم يبق منه إلا القليل الذي بقي أثره في رسم المصاحف وتغيرت كتابة الناس فيه، مثل كلمة (الصلوة)، حتى وقت قريب جدا كان كثير من الناس يكتبها كذلك بالواو!
حتى أخذت تطرد كثير من ظواهر الرسم مع الأيام، ولم يشذ إلا اليسير، ثم حُفظ الأمر بالرواية وبقي على ذلك في بعض المصاحف إلى يومنا (كما مثلنا بكلمة لأاذبحنه)، كل ذلك بقدر الله عز وجل.
فليس لأحد بعد ذلك أن يطالب بتغيير رسم المصاحف لمجرد اختلافاته اليسيرة هذي مع ما أحدث الناس. بل الأولى أن تُعلَّم لمن يقدر.
فإن هممتُ بنسخ مصحف أو طباعته - وقد صار ذلك ميسورا في زماننا بفضل الله -، وتحريتُ في ضبطه قراءة أهل مصر من الأمصار، فما يجرمني بعد ذلك على ترك ما بلغني من رسم المصاحف القديمة، على ما بين رسمها ورسمنا من اختلافات يسيرة؟!
ثم إن الاكتفاء بما رواه علماء الرسم يسد باب الاختلاف على رسم موحد جديد يكون نموذجا يُرجع إليه في نسخ المصاحف!
وإلا رأينا العجائب في المصاحف، بعدما فشا الفساد في الناس كما نعلم!
لكن الأهم من ذلك كله أن (بعض) الرسم يتعلق بحروف القراءة. غير ما هنالك من مصالح عدّها العلماء يطول الحديث هنا بتتبعها.
¥