تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التدبر: من دَبَرَ, والدبُر هو من الآخر والعقب. وتدبير الأمور, هو النظر فيها بعمق وإحاطة, وتوجيهها وتصريفها على الوجه الأحسن, واعتبار عواقبها ونهاياتها.

وتدبر القول كتدبر الأمر, من النظر فيه, وإدراك مراميه ومقاصده, وتتبعه من ابتداآته حتى أدباره وأعقابه, {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون, مستكبرين به سامرا ًتهجرون, أفلم يدّبروا القول}.

وتدبر القرآن هو السبيل إلى الفهم والفقه, بعد الوصول إلى إدراك اتفاق الآيات وانسجامها, واستشعار مكامنها, {أفلا يتدبرون القرآن؟ , ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.

ولا يظن ظان أن التدبر لفئة دون فئة, أو طبقة دون أخرى, بل هو أمر الله العام لكل من بلغه الكتاب, مؤمن أو غير مؤمن, عالم مستبصر أو دون ذلك, {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} , فهل منا من يرى هذا الآية لقوم دون قوم؟.

كذلك لا يشترط القرآن على المتدبر غير مناطات العقل, من السمع والبصر, فمن ملكها ملك نصاب التدبر, {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم, أفلا يتدبرون القرآن؟}.

فإذا تدبر غير المؤمن كما أمر الله, متجرداً لها قاصداً صوابها, آمن بإذن الله.

ولمن تدبر مواقعها في القرآن وجدها جميعاً بحق غير المؤمنين, فهي بهذا, الباب الأول للإيمان, فلا يتركها بعد إذ آمن واهتدى, بل هو بعد إيمانه أولى بها.

أن نتذكر القرآن

وهي عند الله أعلى الدرجات بباب الولوج والتداخل مع "الكتاب", فترى الله يقصرها ويحصرها بفئة خاصة, على أمثالها تُعقد المعاقد, وتُنصب الشواهد, بما أولاها الله من موازين القسط, وفراقين الصواب, {وما يذّكر إلا أولو الألباب}.

فما هو التذكر, ومن هم أولو الألباب؟!.

التذكر: من ذكَر, وظاهر معناه يقابل النسيان, {واذكر ربك إذا نسيت} , {أذكرني عند ربك فأنساه الشيطان} , وهو بالوصف التقريبي, استحضار ما لم يكن حاضراً, واسترجاع ما كان غائباً, فالنسيان يخرج المعلوم من مساحة العلم, فلا يستطيع الانسان أن يستعمله, تماما كأنه لا يعلمه, حتى إذا ذكره فدخل حوزة العلم, استطاع أن يستعمله ويوظفه. فهذا الاستحضار والاسترجاع إلى حيز المعلوم هو التذكر.

ثم للمتدبر أن يسأل: لم لا يتذكر إلا أولو الألباب؟!.

قبل أن نجيب, علينا أن نحاول تحديد من هم "أولو الأباب".

اللب في تفاسير سياق الآيات هو العقل, ولكن لِمَ لم يقل ربنا: أولو العقول؟ , إن كان كذلك؟.

اللب, في لغة العرب: أصل الشيء وأحسنه, ثم جعلت الكلمة كناية للعقل.

وتذكّرُ القرآن: هو استحضار الاصول والمتعلقات المشترَكة لمذكور ما, بإشاراته ولفتاته إلى حيز العقل والعلم, والوقوف عليها وتوليفها والعقد بينها, ليخرج العبد المتذكر بالدلالة والمقصد والمعنى, الذي لا يظهر ولا ينتشر عياناً لوهلته الأولى, بل هو قائم على قدرة العبد على الاسترجاع والاستجماع والاستحضار.

فترى العبد المتذكر يتطوف بين السور والآيات, والقصص والأمثال, فيذكر هذه مع هذه, ويفهم هذه بتلك, فتستنير له المعاني والعبر أجلى ما تجلى.

وعامة ما ذكرت عليه في القرآن -بهذه الدلالة-, كانت فيما انقضى ومر من العبر والآيات, التي يحسن بالعاقل أن يسترجع أصولها وصورتها, ليحصل له المطلوب من المواعظ والمراشد والعظات.

{ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أُخرج حيا, أولا يذكر الإنسان إنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً؟}.

فمن هم أولو الألباب؟.

كما أشرنا من قبل, فاللب: أصل الشيء وأحسنه, بالتالي فإن أولي الألباب خصوصاً, هم الذين ينصرفون ويتوجهون إلى ألباب الأمور بأصولها وجواهرها ومكامنها, والوقوف على أحسن ما فيها, فتخلص لهم الأمور صافية جلية صحيحة, {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب}.

و"أولو الألباب", صفة ذهنية عقلية لا يشتر ط لها الايمان, فقد تكون ذا لب مؤمن, وقد تكون ذا لب غير مؤمن, {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا} , ولو لم يكن في غير المؤمنين أولي ألباب, لما آمن أحدهم قط, ولكن بما عندهم من الألباب آمنوا.

وقد يقول قائل بعدها: فأين الترتيل من هذه الاربع؟

فنقول: إن الترتيل حالة في عرض القرآن واستعراضه, وهو متعلق بالقراءة والتلاوة, فقد أقرأه مرتلا, وقد أتلوه مرتلا, فهو في الحالتين, للعرض والاستعراض كما أشرنا, ولكننا نتدبره ونتذكره مفصلا أو مجملا مجموعا, سرا وجهرا, على أن غالب التدبر والتذكر إنما يكون سرا في ذات العبد.

والترتيل من رتل, وهو حسن التناسق, ويكون في المفرق, كرتل الاسنان وصفها, ووردت في سورة الفرقان كذلك, {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة, كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} , وهو في صالح المعنى الذي سقناه, إذ الترتيل هنا جاء في مقابل المنزل جملة واحدة.

ثم ما ورد في المزمل {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا, نصفه او انقص منه قليلا, او زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} , وسياق الترتيل في الآية يتناسب والعرض المجزء المقسم, كالآية التي سبقت, وصورة "المزمل" الذي يجمع بعضه إلى بعض, هي الصورة المقابلة للترتيل والاسترسال.

فالترتيل بهذا, حالة عرض أو استعراض, حال قراءة العبد أو تلاوته للكتاب.

{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير