عندما كان نابليون يدوس ألمانيا تحت قدميه، كان العقلاء يحذرون الفرنسيين من السموم المستقبلية التي يصنعها الفرنسيون لأنفسهم في قلوب الألمان، كانت فرنسا تجتاح المقاطعات الألمانية المتوحشة المتخلفة، بأن الألمان لن يبلعوا الضيم طويلا، ولكن الفرنسيين كرروا كل تلك المآسي، حتى صحوا على هتلر يغتصب فرنسا ويسير في شوارع باريس بكل جبروت كما فعل نابليون ويقول ها أنا أرد لكم ما أسلفتم.
ورأيتم من قريب كيف استخدموا صدام لصد الثورة، ثم اغتصبوا العراق ونهبوه ثم قتلوه، وأسلموه لخصومه، كتب الصحفي الإيراني "محمد صادق الحسيني"، حينما أستنكر بعضهم عدم تدخل إيران في أول حكومة عراقية، فقال إنه سأل مسؤولا إيرانيا عن السبب فقال له المسؤول: بالله عليك لو شكلت إيران الحكومة العراقية هل يمكن أن تعين أحسن لها من هؤلاء؟ وكان يتحدث عن حكومة الجعفري.
6
بالرغم مما أظهرته الثورة من أنها حركة عقلية واقعية وتحررية إلا أنه يوازي ذلك تراجع مضاد في تسييد الخرافة، والمبالغة في نفوذ أرواح التقاة والتعلق بالأولياء والعبّاد ومن قيل إنه من الخيّربن!
فهناك مساجد ومشاهد ومقابر تشيّد بشكل عظيم ومبالغ فيه، وكأن بعضهم يراها بديلا عن العتبات المقدسة وقبور الأئمة في العراق، وقد تكون بديلا مستقبليا عن الحرمين، وبديلا عن زيارة المراقد التي تزار في العراق،، ولا أستبعد سببا اقتصاديا لهذه التحولات في المواقع المقدسة.
عند دخولنا منطقة قبر الخميني توقعنا أنهم سيطالبون بمال، ولكنهم تركونا وأعطونا بطاقة "صلوات"، وهي تعني مجانا أو صدقة أو لتقوم بالدعاء لصاحب المقام، في مسجد الخميني ترى قبرا على ناحية المسجد اليسرى في المقدمة وتراه أشبه بالقبر النبوي ومعه قبر أحمد ابنه، وزوجته تحت صندوق على بضعة أمتار قليلة.
من الملاحظ أن السياسة والعنصرية والحصار الاقتصادي والسياسي والديني واللغوي، يبدو أنها تصنع كل يوم وحدة وتكوينا جديدا لدين جديد وثقافة خاصة، منها التمرد العقلاني ومنها الإغراق الخرافي، ومنها الخروج إلى التغرب ومنها الإلحاد، وهذا ليس نتاجا لمستجدات جديدة، وخاصة ما يتعلق بالخرافة، بل بعضه من زيادة الخيالات التي تضخمت عن آل البيت وعلاقات الهوية الخاصة التي تنشأ بقوة وتميز في إيران، وهذه بدورها تساعد على صناعة هذا التكوين الجديد، قد يسمح للحكومة بفوائد مركزية وتميز واستغلال للتابعين وانغلاق على اللغة والثقافة الفارسية والتميز العقدي الجديد.
لا شك أن المفارقة اللغوية، وضعف اللغة العربية لدى المتعلمين لعلوم الشريعة ـ وقد حذر من هذا كثيرا مطهري ـ وهذا الانفصام اللغوي والسياسي عن العربية، والبقاء داخل أسوار الفارسية والتشيع أضعف الدين واللغة، وساعد على بناء مشاعر تميز قومي وعقدي، فأصبح أشبه بدين خاص ينمو في مكان خاص ولغة خاصة.
قابلت الشيخ هاني فحص الشيعي اللبناني المعروف، في مؤتمر في القاهرة في نهاية شهر يونيو وذكرت مستغربا التشكل الجديد لملامح دين وهوية متميزة وجديدة في إيران، فقال هذه الظاهرة الجديدة بدأنا نسمع عنها وهي ما يسمونه بـ (الدين الشيعي). ولكم آمل أن تكون هذه الانطباعات مجرد أوهام لا حقيقة لها.
إن الثورة والحصار أنتج حالة مخيفة من العزلة إن لم يتم التغلب عليها بانفتاح وتذويب للأحقاد فسوف يزيد من اكتنازها باتجاه التدمير الداخلي أو الخارجي، ومؤشرات الغرب تلوح بالتمدد الخارجي في منطقة فارغة عقديا وسياسيا واحتلال غربي يعاني ولا يستبعد أن يبحث في إيران عن منقذ لسياسته هو لا لإيران، وقد تكون جاهزة لممارسة دور الوصي على من لا سياسة له ولا توجه.
وقد قرأت في أكثر من كتاب من كتب الكاتبة الأمريكية روبن رايت، التي تابعت الشأن الإيراني طويلا وعن قرب، وكانت تدخل قصر الحكم وتحاور الحكومة والمثقفين المناوئين لها، وتشيد أو تشير إلى دين البروتستانت الجديد في الإسلام، أو "المحتجين" وتشبه التحولات في إيران ـ وربما تغري عن قصد ـ بقصة نشوء البروتستانت الألمان الخارجين على الكاثوليكية، وتؤكد على دور "سروش" وتنفخ فيه وأنه يقوم بدور يشبه ما قام به مارتن لوثر، بل وتسميه لوثر الإسلام. وترى أنه كما كانت ألمانيا مهد البروتستانتية فسوف تقوم فارس بدور ألمانيا في صناعة الدين الجديد.
ـ مستبصرون وآخرون:
¥