[القول في من زعم بأن للسريع سبعة أضرب لا ستة]
ـ[سليمان أبو ستة]ــــــــ[24 - 10 - 2008, 09:33 م]ـ
قال الأخفش في كتاب القوافي، بباب ما يجوز من الساكن مع المتحرك في ضرب واحد:
"فمن ذلك (فَعْلن) في السريع يجوز مع (فَعِلن) إذا كان مقيداً ولا يجوز في الإطلاق".
وهو يشير بذلك إلى ما كان من جمع للشعراء الجاهليين لضربين من السريع في قصيدة واحدة نحو قول المرقش:
هلْ بالديارِ أنْ تُجيبَ صَمَمْ ... لَو كان رَسْمٌ ناطِقاً كَلَّمْ
الدارُ قَفْرٌ والرُسومُ كَما ... رَقَّش في ظَهْرِ الأديم قَلَمْ
فالقصيدة من العروض الثانية المخبولة المكشوفة (مَعُلا = فَعِلُن)، وضرب البيت الأول أصلم (مَفْعو= فَعْلُن)، أما ضرب البيت الثاني الذي جعله الخليل رابع ضروب السريع وجعل شاهده:
النشر مسك والوجوه دنا * (م) *نيرٌ وأطراف البنان عَلَمْ
فهو كالعروض مخبول مكشوف.
فالخليل إذن يعد ضروب السريع ستة خلافا لما زعم ابن عبد ربه أنه نقل عنه ضربا سابعا شاهده:
يا أيها الزاري على عُمَرٍ ... قد قلتَ فيه غيرَ ما تَعْلَمْ
أي أن أمر هذا الضرب الوحيد عند الخليل كأمر ضرب الخفيف الصحيح حينما يعتل بعلة التشعيث (فالاتن) وهي من العلل الجارية مجرى الزحاف. قال الخليل فيما رواه الأخفش:"إنما يجوز (فعْلن) مع (فعِلن) لأن هذا الجزء أصله (مفعولاتُ) فـ (فعْلن) هو (مفْعو) و (فعِلن) هو (مَعُلا) لأن الفاء والواو يقعان للزحاف".
ولم يوافق هذا التعليل رأي الأخفش الذي بلغت به الجسارة على الخليل (والتعبير لمحقق كتابه النفاخ) إلى الحد الذي يقول فيه: " وهذا مذهب ضعيف، لأنه لا يُدرى أن العرب أرادت هذا بعينه، أو أخرجت شعرا من شعر، وإن كان قد يقول الرجل منهم أعاريض لم يقلها أحد قبله. ولم نسمع بما زعم الخليل أنه خرجت منه".
فالأمر عندنا ببساطة هو أن الخليل عدّ التغير الذي وقع في ضرب السريع من قبيل الزحاف الذي لا يلزم، وقد كان الأخفش يعلم ذلك تماما على الرغم من مكابرته، قال: "وقد أجازوا (فَعْلن) مع (فَعِلن) في الكامل إذا قُيّد. أخبرني من أثق به عن المفضّل أنه سمعه من العرب. وأنشدني غيره قصيدة لعديّ بن زيد، قال:
من آل ليلى دِمنة وطَلَلْ ... قد أقفرت فيها النعامُ زَجَلْ
ولقد غدوتُ بسابحٍ مرِحٍ ... ومعي شبابٌ كلهم أخيَلْ
ساطي الجِراء كأنه وَعِلٌ ... نَهدٌ مُمَرٌّ خلْقهُ مُكْمَلْ"
وهنا سلّم الأخفش بالرأي القائل بأن ذلك من فعل الزحاف، تماما كما هو قول الخليل الذي أنكره في السريع، إلا أنه ظل على مكابرته قائلا: " فهذا شاذ قليل، وليس مثل السريع، لأن ذاك في السريع لم تجئ قصيدة إلا وهذا الاختلاف فيها. وهذا البناء من الكامل قليل، ولم يجئ فيه إلا شاذاً" ثم قدم لنا من عنده تعليلا لذلك، قال: "ولو قال قائل: إن إسكان هذا كالإسكان في الزحاف لم يكن به بأس. ولا أراه جاز إلا لأن المقيد لم يبق فيه إجراء صوت ولا حركة، فرأوا أنه موضع السكون وترك المدّ، فجاز هذا السكون فيه لذلك".
قوله: "لأن ذاك في السريع لم تجئ قصيدة إلا وهذا الاختلاف فيها" مردود عليه، فلم أجد فيما تتبعته من قصائد على هذا النوع من السريع ما يتعدى مرحلة الشعراء الجاهليين، الأمر الذي جعلني أعد هذا الضرب من السريع حلقة مفقودة انتقل بها الشعراء إلى العروض الثانية الحذاء من الكامل بضربيها: الأحذ مثلها (فَعِلن)، والأحذ المضمر (فعْلن) وهما الضربان اللذان اجتمعا في قصيدة عديّ.
واليوم فأنت لا تكاد ترى أحدا من الشعراء ينظم على قريّ قصيدتي المرقّش وعديّ كما نظم بعض الشعراء الجاهليين، وهم قلة، بل إنهم جميعا آثروا أن يلتزموا بضربي الكامل اللذين أشرت إليها وتركوا تلك النماذج الأولى من رابع السريع المقيد، ورابع الكامل وخامسه المقيدين ليقبعا في أرشيف العروض التاريخي لأغراض الدراسة لا غير.
والآن، وما دمنا في صدد الدراسة، فهل كان الخليل، رحمه الله، مخطئا في اعتباره أن تلك العروض من السريع لها ضرب واحد مثلها لا ضربين كما زعم الأخفش ومن تابعه من العروضيين؟
في الواقع لا نكاد نجزم بذلك، فالخليل كان يشير في ضرب السريع إلى ذلك النوع المقيد القافية، ولو لم يكن التقييد صفة لذلك الضرب لما أمكن للخليل أن يؤكد اجتماع الضربين فيه على سبيل الزحاف. وهذا ما كان على الأخفش أن يقبله كما قبل ضرب قصيدة عدي المقيدة على البحر الكامل، فأما محاولة الأخفش التي أتحفنها بها لتعليل تلك الظاهرة فرأيي أنها تبقى اجتهادا من طرفه لا يلزمنا قبوله.
وأما الرأي الذي نراه لتعليل وقوع ما يسمى بضربين في تلك العروض من السريع فهوأن نظام القافية عند العرب يسمح بذلك دون أي ريب،
وكما ذكرنا في موضع آخر في تعريفنا للقافية بأنها: صوت الروي وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبقه، فإذا كان هذا الصوت حركة قصيرة، وكان ثاني صوت يسبقه ألف مد، التزم هذان الصوتان بعينهما، فإننا نجد الضربين المذكورين يجتمعان القصيدة الواحدة بلا أي شذوذ أو نشاز، وهو ما لا يتسنى لهذين الضربين أن يجتمعا في قصيدة أخرى لو كانا مطلقين لا مقيدين.
وهذا التعريف للقافية هو، في تقديري، ترجمة لقول الفارابي حولها: " وكثير منهم يشترطون فيها مع ذلك تساوي نهايات أجزائها، وذلك إما أن تكون حروفا واحدة بأعيانها، أو حروفا ينطق بها في أزمان متساوية".