تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عيوني ومن في عينها أرقب المطر

حياتي وما دمعي وما دم مقلتي

الى جنبها .. يجثو لها السحرُ والسحر

أهيم بها والنفس ترقص كلما

أراها وإني اعشق الأرض والشجر

تداعبني أغصانها في مراسمٍ

أكون بها سلطان دهري ولا فخر

ويلثمني عزف النسيم ببابها

يحرك أشجاني فنلهو بلا ضجر

عزفتَ لها، فتهيأ المتلقي للغزل، وهمتَ بها فانتظر القارئ حكاية التَّبَل، فإذا بها أمك الأرض وطرا ونعيما، شجرا، مطرا، حجرا ونسيما.

اعترضتُ في البداية على ذكر الوتر مفترضا أنها جاءت تكملة يمكن الاستغناء عنها، ذلك أن العزف لا يكون إلا على وتر، وعندما قرأت " عزف النسيم " قلَّ اعتراضي.

حيرتني هاء لها على من تعود، وظننتُ لحظة أن في ليست حرف جر، ظننتها جرت بالياء بمعنى فم، ولكن المعنى لم يستقم. فعدت إلى الواو وقلت هي عاطفة ولكن لماذا قلتَ أرقب ولم تقل نرقب؟

أمومة الأرض معنى تسمر في وجداننا مقاومة وانتفاضا، لكنَّ شاعرنا تسمر حنينا واهتياضا:

أنا الطفل يا أمي خذيني فإنني

أحن حنين الليل للنجم والقمر

أحن حنين القفر للهاطل الهميِ

أحن حنين النحل يلثمه الزهر

الفاعل والمفعول تبادلا أدوار المفعولية والفاعلية، لم يعد النحل وحده لاثما، ولم يعد الزهر وحده ملثوما،

فإن فعلها شاعرنا صابر فقد فعلها من قبله المتنبي عندما هجا ضبة، غير أن سمو براءة المعنى عند شاعرنا لا يقارن بنبو بذاءة بيت المتنبي.

أحن إلى الماضي يعيش بحاضري

يُحضّرني في حاضرٍ بات يُحتضر

حاءات تتهادى، ضادات تتنادى، كانت بداية هذه التكرارية الظريفة عند امرئ القيس إن صح نسب لاميته الساكنة إليه، وتبعه الأعشى في " شاو مشل شلول شلشل شول "، لكن شاعرنا لا يتلاعب بالحروف رفثا، فالمعنى الجاد يباري هذه التكرارية نفثا.

وفي القلب ما في القلب من لوعة الهوى

وفي العين ما في العين من متعة النظر

وفي النفس ما في النفس من لذة الدنا

وفي الروح ما في الروح من لهفة الوطر

تكرار متسق وإيقاع متفق، طباق بين القلب والعين نظرا وهوى، ولا طباق بين النفس والروح لذة ورؤى، ناهيك عن سهولة ممتنعة، وعاطفة غير مصطنعة.

فلم أرَ مثل الصبر أما مذاقه

فمرٌ وأما طلعه فهو كالثمر

حاكيتَ القائل

ولم أر كالمعروف أما مذاقه

فحلو وأما وجهه فجميل

ولكن لا تنس أن بعض الثمر قد يكون مرا، ولنتذكر قول الحسن بن هانئ:

لا أذود الطير عن شجر

قد بلوتُ المر من ثمره

أسيح وأرجو رحمة الله والهدى

ومازال في الأيام فُسحاً ومنتظر

نصبت فسحا وحقها الرفع اسما مؤخرا لزال.

وإن كان في عمري مزيداً فإنني

بعز عزيزٍ سوف أجني وانتصِر

نصبت مزيدا وحقها الرفع اسما مؤخرا لكان.

فان عشت منصوراً وان مت خالداً

ودفني بأرضي جنةً لي ومستقر

نصبت جنة وحقها الرفع خبرا لدفني، أغنى السياق عن تكرار ضرورة " عشتُ ومتُ " فصحت حالية " منصورا وخالدا " ولكن

أرضك مهما غلت ليست المستقر فهي دار فناء، لقد جاوزت شوقي:

وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

إذا العمر لم يعطِكْ مراداً و مقصداً

فنل منه قسراً ما أذاع وما ستر

وحاذر وحاذر ثم حاذر وإنما

يشيب الفتى خوفاً ويفنى من الحذر

ثقيل هذا الاضطرار " لم يعطك " في تسكين الكاف في متن البيت، ما رأيك في: لم يُبْلِغْ؟

تذكرتُ بشار بن برد:

من راقب الناس مات هما

وفاز باللذة الجسور

كيف أخذ شوقي برقبة المعنى فقال:

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

أسهبتَ في تكرار " حاذر " ولكن المعنى الاستنكاري في سرد نصيحة الحذر لم يكن ليصل لولا هذا التكرار.

أنا الشمس مهما أُشعلت وهمُ شمسِهم

وذلّت لها الدنيا كما انقادت الصور

أنا الأصل ألّا تُمعِنوا خاب رأيكم

وهمتم سكارى دون سُكرٍ أيا بشر

انقياد الصور أم انقياد الدمى؟

" أيا بشر" نداء عارض، لم يوظف كما يجب.

ولي حاجةٌ أُهدى فيُهدي على يدي

سقيمٌ ومقهورٌ ومستعجمٌ أشِر

أشفقتُ على " مقهور " لم زُجَّ بين هؤلاء المذمومين؟

أُحدث نفسي قبل نفسك علّها

تلاقي وفائي بالوفا خاب من نكر

ولا عيب في نصحي إذا كنتَ أولاً

عسى النصح يهديني لقولي فأدّكِر

ففينا صلاحٌ أو هلاكٌ وكلنا

نُكمِّل بعضاً والحصاد لمن بذر

" كنتَ " من المخاطَبُ هنا؟ وما هي حركة الكاف في " نفسك "؟ إن كانت كسرا فهذا يعني أنك تخاطب أمكَ الأرض، وعليه لا يستقيم قولك " علها تلاقي وفائي بالوفا " فهي وفية أبدا، وإن كانت فتحا فالسؤال مرة أخرى من المخاطَبُ؟

مهلا لعل المخاطب ذلك المستعجم الأشر، ولكن كيف قلتَ لهُ: " نكمل بعضا "؟ وما هذا التناصحُ بينك وبينه؟

" إذا كنتَ أولا " ما الأولوية المقصودة هنا؟

سلكت دروب المجدِ والجدِ ثابتاً

ووكلت أمري خالقي فهو من نصر

" المجد والجد " جناس جزئي

فصبراً بني قومي فكلٌ لأصله

يُرَدُّ وخير الناس لا شك من شكر

" لا شك " حشو أربك سلاسة التعبير، فضلا عن التنافر الإيقاعي بين " شك " و " شكر "

وقبّلتها والبحرَ والجوَ والحجر

يجوز عطف الظاهر على الضمير وإن تدللت الواو معية وعطفا.

وعشت بها أحلى سنينيَ راغباً

أعود بعمري والليالي إلى الصغر

" أحلى سنيني " معنى تأبطته المغنون حتى الابتذال، ويأخذني الشطط إلى الدعوة إلى تركه.

لعينيك يا أمي نسجت قصيدتي

كتبت بقلبي حجم حبي الذي انتشر

" حجم حبي " سرد نثري تساهلتَ في قبوله.

ولو حدت عاد الحب بي يا حبيبتي

وما حدت يوماً لا ولا راقني سفر

سأترك دمعي للسيوف لعلهُ

يزيل الصدى أو يشحذ النصل بالعِبر

همة وعزيمة، قوة وشكيمة، تجاوب ساحر بين صاد " الصدى " و صاد " النصل "

واحمل حبي والوفاء وابتغي

الحياة لديني والوفاة لمن كفر

" الوفاة " تقابل " الحياة " ولكن المألوف أن يقال " الممات"

وإلا فلا أهلاً ولا مرحباً بنا

وكلٌ حزينٌ مستكينٌ ومنكسِر

جميل هذا البيت تحريكا وتحفيزا.

شاعرنا صابر

هنيئا هذا التمكن والاقتدار، وهنيئا هذه الهمة، لقد تجشمتَ قافية مقيدة قلما تناسب فخامة الطويل، فتوقلتَ العراقيب، وطلعتَ الثنايا، شاعرا ننتظر جديده الأجود، في عَوْدِه الأحمد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير