تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

د. أحمد خيري العمري

تاريخنا، ككل تاريخ، فيه ما هو إيجابي، وفيه ما هو سلبي. لكن فيه استثناءين اثنين، الاستثناء الأول فيه أن الكم الإيجابي كان كبيراً، لدرجة أحدثت ثورة في مسار الإنسانية، ثورة غير مسبوقة، وغير ملحوقة أيضاً، الاستثناء الثاني، أن الجزء السلبي فيه لم يكن كبيراً جداً في البداية على الأقل، واختص بجانب واحد من جوانب الحياة، لكن هذا الجزء السلبي استطاع أن يرسخ جذوره، ويجد من يكرسه، و على الرغم من مخالفته لنصوص كثيرة، إلا أنه وجد من شرعنه وألبسه غطاءً شرعياً ..

وهكذا، انتهى الأمر بنا، ونحن في حالة قطعية مع إيجابيات التاريخ (أي مع الجزء الأكبر منه) وفي حالة تواصل واستمرارية مع سلبيات هذا التاريخ (أي جزء كان صغيراً في بداية الأمر إلى أن كبر مع الوقت مثل كرة ثلج- أو كرة نار؟!) .. وبعبارة أخرى، فإننا فقدنا الصلة، مع الأسف، بتلك الروح المبدعة التي غمرت التاريخ الإسلامي في العهد الأول، الروح التي فتحت العالم، بكل ما للفتوح من معانٍ عميقة ومتنوعة، لكننا، ومع أسف أكبر، لا نزال نحمل ما أفقدنا تلك الروح المبدعة، ولا نزال نحمل كل الحيثيات التي ساهمت في قتل معظم ما جعلنا نقف على القمة في أوائل التاريخ الإسلامي ..

فقدنا روحية الفتح، وورثنا بدلاً منها الاستبداد .. بالذات ورثنا تقبلنا للاستبداد، تقبلنا للأمر الواقع، ورثنا قابلية الاستبداد، التي هي في حقيقتها قابلية الاستعباد، وهي ذاتها قابلية الاستعمار ..

كيف حدث ذلك؟ .. ربما لأن المفاهيم السلبية، عندما تتجاور مع المفاهيم الإيجابية، تتمكن من أن تقهرها، ما لم يحدث فصل واضح وقوي بين الاثنين. ربما هي قوة السلب التي تتقوى بالكسل وبحقيقة أن الإيجاب يتطلب تحمل عبء المواجهة. وربما لأن بعض فقهاء السلطة حاولوا التصالح مع الأمر الواقع، وحاولوا تمرير بعض المظالم وإعطائها وجهاً شرعياً، بدافع 'درء المفسدة' و 'طاعة ولي الأمر' في البداية، واستخدام مفهوم شديد السلبية للقضاء والقدر، ربما بدون قصد سيئ مسبق، لكن بنتائج شديدة السوء مع الوقت، تحول الأمر من التعايش مع نظام حكم انتقل من الخلافة إلى الملك العضوض، إلى التعايش مع واقع سلبي بكل معطياته، انتقل من التصالح مع أمر واقع من أجل دفع مفسدة ما، أو جلب مصلحة ما، إلى مهادنة واقع هو في جوهره مضاد لكل قيم الشريعة ومقاصدها. وهكذا انتقلت الأمة من موقع الريادة الحضارية بين الأمم، موقع 'خير أمة أخرجت للناس'، إلى مراتب دنيا متخلفة بين الأمم، سواء كان ذلك حسب مقاييس هذه الامم، أو مقاييسنا نحن ..

وإذا كانت ثقافة التصالح مع الأمر الواقع، قد أجهضت كل محاول لتغيير نظام الحكم، واعتبرت أن واجب المسلمين هو الدعاء للسلطان المتغلب (باعتبار أن الحكم حلبة صراع بين طرفين والجمهور محض متفرج يدعو للمتغلب منها)، فإنها أيضاً أجهضت، كنتيجة لاحقة، مفهوم التغيير الاجتماعي والثورة الاجتماعية الثقافية التي أطلقها الإسلام، وذلك عبر قصر مفهوم 'الخروج' على الخروج على السلطة وعلى ولي الأمر، فالرضوخ والسكوت هو واحد في نهاية الأمر، خاصة وأن مفهوم 'الكفر البواح' كان مفهوماً واسعاً جداً، وتمكنت مؤسسات الحكم بمختلف أنواعها أن تفعل كل شيء لكن أن تتهرب من بواح الكفر، عبر إخفائه وتغطيته، وضمان أن ذلك سيتكفل بعدم الخروج عليها .. تفاعل ذلك مع مفهوم سلبي لعقيدة القضاء والقدر، تقعد ليفسر سوء الأوضاع وتدهورها بضعف أداء الشعائر الدينية، والحث على أدائها دون التركيز على دورها في عملية البناء الاجتماعي ..

ولما كان مستوى الأداء الشعائري لا يخضع لمعيار ومقياس واضح، لأنه يرتبط فوراً بعلم ذاك الذي يعلم ما في الصدور، فإن ربط التدهور بسوء أداء الشعائر كان دوماً هناك .. و هكذا فسرت اسباب التدهور بطريقة تجعل الفرد لا ينظر إلا الى أعراض هذا التدهور لا جذوره العميقة ..

دخلنا في حلقة مفرغة، ومستمرة، من عملية التدهور والمزيد من التدهور واعتبار هذا التدهور عقوبة نستحقها لهذا السبب أو ذاك، ومحاولة الدفع بالمزيد من الشعائر التي تعرضت لزيادة و إنقاص: أزيدت عليها البدع، و انقصت منها الأبعاد الاجتماعية ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير